في هذا العصر، الجميع يكتب. ودورُ النشر لا تُتعبُ نفسَها في فحص مدى جودة أو رداءة ما تُقدّمُهُ للقرّاء. فَمَا يعنيها في النهاية هو هامش الرّبح الذي ستحققه لِقاء إذاعة تلك النّوعية الرديئة من الكتب. فقط لأنّ شريحة كبيرة من القُرّاء الشباب اليوم، إذا لم نقل أفراد ناضجين، يتهافتون على تلك الأفكار ويستهلكونها بشراهة. مع أنّها أفكار عقيمة ولن تُقدّم أيّ إضافة معرفية أو توعوية.ولا حرج في أن نَحكُمَ على هذه الأفكار بأنّها تُوجّه الذوق العام نحو السماجة والتفاهة.
وجاد علينا الزمان بمشاهير يتفاخرون بمقروءاتهم،فإذا فحصتها وجدتها أباطيلاً لا معنى لها. لأننا نعيشُ في مجتمع هشّ نفسياً ويسعى لتغطية ذلك النقص بفرض الذات فيصدّق كلّ من يخبره بأنّ “قول لا” للناس ستجعله سيداً، وأنّه إذا وثق بنفسه سيغيّر خارطة العالم…الخ. ولكنّ من ربّتهُ الكتب الأصيلة، واغترفَ من حكمة الشّعراء، وفلسفة الحُكماء،واستزاد من وحي الأقلام الرّفيعة والعقول النبيهة لم يرى في تلك الخسّة والرداءة أكثر من بهرج خدّاع ولم يحتج مع ما عندهُ من الأدب والذوق والعلم إلى سافهٍ ينصحه وهو لم يركب موج الحياة بعد .
من أدّبتهُ حكمة زهير و أدبُ بشّار وأخلاق مسكويه وعبارة التوحيدي.. فسيعاني في عصرٍ يُعلون فيه من شأن التافهين الذين لا حكمة ولا أدب ولا أخلاق ولا لغة عندهم!
أمّا الشّعرُ والرواية فذلك خَطبٌ جلَلٌ يندى لهُ الجبين!
أتساءلُ أحياناً لو أنّ شاعراً من القدماء نزل بعصرنا ورأى مآل فنّ لم يكن للعرب علمٌ أصحّ منه، سيرى عبارات مسكوكة لا تصلحُ حتى للنثر، سيرى ويتعجّب من كلمات وضيعة لا معنى تحمله ولا مبنى يحملها! سيتفاجأ من ديوان العرب وديدن كلّ من شبّ في أرض العربية.. وسيخاطب الشعر قائلا : “لقد أزرى بك الدّهر بعدنا”.
ألا يوجد بينكم رجل رشيد يكفّ هذا الشطط ويصون عرض لغة القرآن وثرات الأجداد؟
قراء هذا العصر صارت تستهويهم روايات الرّعب ويتهافتون على صُنّاعها، ويقرؤون الروايات العجائبية الخيالية الفارغة من المعنى.. وينفرون من الرواية الحقيقية، التي تنتقد، وتبني، وتهدم … الرواية التي تعكسُ الواقع، والمفارقات الاجتماعية والنفسية، الروايات التي أودت بأصحابها إلى غياهب السجن، الروايات التي تحكي لنا عن نزيف الإنسانية، الروايات التي تُقحمنا في تموّجاتها.
وقراءة غير نافعة لا يمكن أن تنتج عنها كتابة نافعة. الكلّ يكتب ولكن لا أحد يستطيع ملامسة جراح الإنسان والالتفات لقضاياه الجوهرية، الكتابة اليوم هي تجارب عاطفية تافهة لا تستحقّ المعرفة، وحكايات ذات حبكة رديئة ! لُغتُها ركيكة مليئة بالأخطاء اللغوية والتركيبية، وحديثها فارغ.. لأنّ الرواية لا تُكتبُ بالقصة، الرواية تُكتب بالأفكار والمذاهب الفلسفية والمفارقات.. لقد زهدنا الآن في قصص الناس التي تملأ الأسواق والمحافل، نحن نبحث عن جديدٍ .. عن طريفٍ .. وإلا فلا أحد سيقرؤ ذلك المنتوج.
الجميع يكتب والجميع ينشر بسهولة كما أسلفنا . وهذا رهان كبير أمام الكتاب الحقيقيين: إذا لم تكتب بتميّز فستُضافُ للقائمة الطويلة . وبالتالي فمن الأفضل أن لا تكتب شيءً.
ولا حرج أن نطرح السؤال بكلّ جسارة: ما السّبب في أزمة الكتابة بشكل خاص والثقافة بشكلّ عام؟
السبب واضح وضوح الشمس؛ ألا وهو تغييب دور النّاقد وغياب الحسّ النّقدي لدى القرّاء . القراء لا يتقنون سوى الانبهار والتصفيق والصّمت، ولا يستطيعون أن يطلقوا حُكماً واحداً على أفكار الأعمال المقروءة. والكتاب يريدون تجاوز الناقد بأية وسيلة وإصدار أعمال لا تحترم قواعد الكتابة من فاصلة ونقطة وغيرهما… بل إنّ النقاد أنفسهم انشغلوا بالتنظير والكتابة حول النقد وتلخيص تاريخه بدل الاشتعال به. فتمّ قتلُ الناقد في الوسط الثقافي.
وعندما سيستعيد الناقد مكانته في السلم الثقافي ستستعيد الكتابة الإبداعية أُلْقها وبريقها.
الحسين بلحاج – مدينة الرباط.
اترك تعليقا