«السأم في حقيقته انعدام العلاقة مع الأشياء» هكذا أحسّ الرسام ” دينو” – بطل رواية “السأم” للإيطالي ألبرتو مورافيا – حين وجد نفسه عاجزاً عن نسج رباطٍ بينه وبين الأشياء المحيطة به، فاقداً لشغف الرسم، متكاسلاً عن إتمام لوحة معلّقة منذ وقت طويل. وبالتالي فقد غادر البيت الفاخر لأمه الثرية ليعيش في مرسم بحيّ فقير، محتجّاً بذلك على حياة الترف التي يمقتها ويعزي لها شعوره بالسأم والضجر وتوسّع الفجوة بينه وبين أشياء العالم المحيط به. كان يأخذ من أمه مبلغاً شهرياً يكفيه ليعيش في مرسمه بعدما رفض أن يعيش معها. يتزامن انتقال ” دينو” إلى المرسم مع الأيام الأخيرة في حياة الرسام العجوز المجاور له ” باليستياري” الذي كان مولعاً بالنساء ويجتلبهنّ عن طريق الرسومات العارية ” الرديئة” التي كان يعلقها في مرسمه المعتم، خاصة الشابة” سيسيليا” – ذات السابعة عشرة سنة- التي لم تكتف بأن شغفته حبّاً، بل مات – كما يروج- متأثراً بفتنة جسدها التي لم يكن وهنه يستطيع مقاومة طراوة فتوّته، فقد كان يبكي بلا سبب (أو إنّ بكاءه تعبير طفولي عن دفق شهوته التي كانت تتجاوز قدح أيامه ) وكان يشتهيها في كلّ مكان وفي كلّ وقت « ولو أنّ هذا الرجل قد أدرك بأنّ هناك بعض الأمور التي لا تفعل في تلك السن، لكان ما يزال حيّاً » كما يقول طبيبه.
بعد موت باليستياري، يتعرّف دينو على الفتاة سيسيليا التي تكرّر مغامراتها الجنسية مع الرسام الضّجِرِ. لم تكن هذه الفتاة الفقيرة التي تكذب على ذويها محتجة بأنها تتلقى دروساً في الرسم بينما هي تمارس” فعل الحب” كما يسمّيه دينو، لم تكن أكثر من شيء وألة لا تثير فيه أدنى حاسّة، ولعلّ أكثر ما يدلّ على ذلك هو اللغة الواصفة التي لا تحمل أيّ إشارات جمالية أو احتفاء بالحُسن، فهو يعرّي الجمال ليفضح عري الكائن، ويمعن في وصف قبح سيسيليا التي كانت مذبذبة بين المرأة والطّفلة. لكنّ ما سيشكّل منعطفاً في حياة دينو هو عندما سيتسرّب له الشكّ،ويجتاحه كالسّيل هاجس أنّها تخونه ولا يستطيع كبح جماح اضطرابه وتجسّسه عليها بطريقة مرضية، لم يكن يملك شجاعة تسميتها غيرة .
« ولكن ابتداءً من اللحظة التي أصبحتُ أشكّ فيها بأنّها تخونني، فإذا بهذا الشك يحوّلها فجأة من الفتاة الوهمية المُضْجِرة، التي كانَتْها، إلى الفتاة الحقيقية المشتهاة. » لقد كان يعتقد في خضمّ الاتصالات الجسدية المتواصلة أنّ امتلاك جسد الأخر يعني امتلاك ذاته، لكنّه اكتشف أنّه لم يكن يملكها، وأنّ رجلا أخر يتقاسم معه جسدها، أمّا لذة الحبّ عند سيسيليا فهي أن تكون مع رجلين مختلفين، رجلين لا يشبهان بعضهما، أحدهما يقدّم الجنس والأخر يقدّم، إلى جانب الجنس، الحبّ والعاطفة. ستشكّل هذه الخيانة المؤثّرة بداية جنون الامتلاك؛ في البداية، يحاول امتلاكها عن طريق استجوابها بأسئلة كثيرة ومتشعّبة في محاولة “لالتقاطها” وهي المنفلتة عن الإمساك، عن الفهم، التي كلّما ظنّ أنّه أحكم معرفتها وامتلكها(فحين نعرف الأخرين نمتلكهم) تفاجئه بسلوكات جديدة مخيّبة للأمال.
كان يعتقد أنّ مجرد إجبارها على الاعتراف بالخيانة يكفي ليقلع عن حبّها، ولكنّها اعترفت الأخير، ووجد نفسه في حاجة لجعلها تبدو فتاة” قابلة للبيع” وبالتالي قابلة للامتلاك، كان يدسّ في يديها أوراقاً نقدية- أثناء فعل الحب- وكانت تقبلها دون أن تفحصها. هنا لم يكن دينو يسعى لمجرد امتلاكها عن طريق المال، بل إنّ اقتناعه بأنّها قابلة للبيع، مشتركة، سيبدّد حبّه لها، فامتلاكها يعني بالنسبة له التوقّف عن حبّها، بينما حالة اللايقين هي إكسير جنونه التي تغذّي شهوة ملاحقتها . ولكنّها تخيّب أمله مجدّداً، عندما لا تبدي أيّ رد فعل حين سيتوقّف عن إعطائها المال مبرّرة ذلك في أنّ ذلك ليس مهماً، وبوسعه أن يعطيها المال في الوقت الذي يريد وليس كمقابل لجسدها. ويكتشفُ أيضاً أنّ المال الذي يعطيها تصرفه على عشيقها المفلس ! من جديد، يحاول امتلاكها عن طريق الزواج منها. لقد دار في خلده أنّ الزواج سيسهّل امتلاكها، سيصنع لها سياجاً على مقاس الحبّ، أغراها بالبيت الزوجية، بالمال، وبالأمومة، حتى أنّه غطّى جسدها العاري بالأوراق النقدية ليثنيها عن السفر مع عشيقها الأخر، ولكنّها ترفض . يخنقها، لقد فكّر من جديد، في أنّ الموت سيجعله يمتلكها جثّة أو ذكرى، على الأقل ستتوقّف ألاعيبها عن تهييج جنونه، ولكنّ ظِلّ الإخفاق ظَلّ يلاحقه .
تسافر سيسيليا .. مخلّفة وراءها جنون دينو بامتلاكها وأباها المرمي في المستشفى يشرف على الموت ، بل ينتظره، على حدّ تعبير الطبيب. خلّفت أمّها المكلومة، العائلة الفقيرة، والحياة الحقيرة التي تفنّن دينو في وصفها بدقة متناهية.
لم يستطع دينو أن يسترجع شغفه بالرسم، ولا حتى امتلاك سيليا، وعاد لحياة السّأم بعد محاولة فاشلة في قتل نفسه.
ألبرتو مورافيا، وبحِرَفيّة عالية، يضرب عرض الحائط المعايير الجمالية في تقديم شخوصه، إذ يظهرون في أبشع صورة، داخليا وخارجياً، شخصيات فاقدة للحس الأخلاقي؛ سيسيليا نموذج على تدنّي الأخلاق، لا تجد في الخيانة حرجاً من أجل إشباع نزواتها المتمثلة في اقتحام مغامرات جنسية مع رجال مختلفي الطباع، ناهيك عن احترافها الكذب الذي يجعل من حقيقتها لغزاً ملتبساً،لم تساعد عائلتها التي كانت تعيش الفقر المذقع أو مساعدة والدها الذي كان يعيش الموت كلّ يوم، مع أنّها كانت تملك المال الذي كانت تغدق به على عشيقها العاطل المتسكّع. أمّا أمّه فتشكّل نمطاً أخر من الفساد الأخلاقي لأنّها تزوجت رجلا لا يحبّها تعلم أنّه لا يهمّه إلا المال الذي تموّل به سفراته الكثيرة، وذلك المال هو الذي يربطهما. الأمر نفسه الذي حاولت أن تفعله مع ابنها، فهي تقرن إعطاءه المال الكثير بالإقامة في بيتها، ولأنّه فضّل حياة الفقر ولم يقبل بالإقامة معها، فقد كانت تتقشّف معه وتعطيه مبالغ صغيرة ليبقى دائم الارتباط بها.
الحسين بلحاج – مدينة الرباط
اترك تعليقا