خيوط الضوء الرفيعة تتسلّلُ برفقٍ عبر النافذةِ الصغيرةِ مبدّدة ظلام ليلٍ حالك طويل… ووحشة مكان فارغ… تحرك مصطفى فوق سريره… متثائبا… توجه نحو الباب بخطى متثاقلة، سكون مقيت يخيم على المكان… مدّ أذنيه في سكون بدا وكأنه يستمع لصوت الصمت يخترق الزمان والمكان…
اقترب مصطفى من النافذة المقابلة لسريره وراح يتأمل السماء… لقد أصبح مؤخرا لا يعرف من السماء إلا هذا الربع الضيق… أخذ ينشد لحنا حزينا يبدّدُ به وحشة السكون الثقيل… أحسّ بشيء ما يجيش في صدره؛ لم يدرك كنهه إحساس غريب .. نوبة مفاجئة تلك التي أحس بها… آه فطن آخيرا أنه قضى نحو الساعة وما يزيد عن الساعة- وهو ساكن سابح في غياهب ذاكرته ظل يتأمل تلك -الرقعة الصغيرة التي باتت هي فضاءه الخارجي- … عاد إلى أريكته ذات الألوان الزاهية؛ يريد أن يكتب رغبة جامحة تدفعه ليكتب ماذا سيكتب؟ لقد سوّد صفحات كثيرة من مذكرته ولا أحد اطلع على ما يكتبه… حتى تلك التي احتجزت سريره الزاهي يوما لم تنل فرصة الاطلاع على ما يخطه… لربما شهدت طقوس كتابته؛ لقد ألف الكتابة في الساعات المتأخرة جدّا من الليل وتحت ضوء خافت في زاوية تقابل السرير وتحادي النافذة… هل سترى مذكراته النور يوما ما؟ ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة نطق مناجيا أناه: ومن يأبه؟
كان يعتقد أن التقدم مقرون بالثورة؟ (يدخل في مونولوج داخلي) لكن أليست الثورة مأساة؟وكيف يجوز أن تخرج المأساة خيرا؟ كان يعتقد بذلك لا مؤمنا به… لقد صار اليوم يعلم أنه في قلب المأساة… ثمة دائما الملهاة؛ وفي قلب كل ما هو شر، هناك دائما خير كثير.
صار بصره حديدا؛ تأكد جازما بأن أشرس المعارك هي تلك التي يبارز فيها الإنسان أناه؛ تأكد بأن نصف ما يُعتقد بصحته.. ليس في الظاهر سوى مسكنات ننال بها رضا النفس… فما صار اليوم التقدم مقرونا بالثورة وإنما التقدم رهينٌ بهزم نوازع النفس…
وضع القلم [في حركة خاطفة وكأنما لمس شيئا مقززا] ثم استلقى فوق سريره مستسلما للنوم الذي أخذ يداعب جفونه كنسمات صباح صحو… حين استيقظ لم يدرِ كم ساعة استغرق نومه…
بات على غير عادته في الآونة الأخيرة؛ صار شديد الملاحظة مهتما بأدق التفاصيل.. أصبحت الوحدة تستهويه.. يجالس يمازح يضاحك الكل ومع ذلك يكون وحيدا… أكثر ما يغيظه هو تغليب المادي على حساب الإنساني والمكر والخديعة على الفضيلة…
سرعان ما عاد لحياته القديمة… لكن بعد اختلائه بنفسه مدة تعلم دروسا وعبرا… لقد تيقن بأنه نادرا ما تجد من يهتم بك، يكثرت لأمرك… ثلاث أرباع من نتعامل معهم يسعدهم فعلا أن نكون فاشلين…الأصدقاء لا يقاسون بالكثرة بل بالوفاء… يبغض الفردانية ولا يطيق الصداقة المبنية على الغدر…
صديقي/صديقتي: اعلم أن كل ما هو ليس فطريا في الإنسان يمكن القطع معه فلا تستسلم لأن هناك من يسعده أن تكون فاشلا.
أما مصطفى فقد عاد لحياته السابقة عاد لفنجان قهوته الذي تفوح من رائحة السعتر يرتشف منه رشفات… أبقى على الكافيين وأوقف مفعول النيكوتين إلى الأبد.
التوقيع: من عابر سبيل؛ قل كلمتك وارحل عابرون في دنيا فانية في زمن سحيق.
الحسين الرحاوي – مدينة بني ملال
اترك تعليقا