من نافذة مربعة الشكل بموازاة باب خشبي تتوسطه عبارة {بسم الله} كتبت بخط يدوي مضغوط ،، ثبت نظره عليها بتركيز وانتباه شديدين… في لحظة أخذ تفكيره واد بينما بصره فسابح في واد آخر… انتصبت تلك العبارة صامدة غير آبهة بنعيق السنين؟ أخذ يسترجع شريط حياته لحظة بلحظة ذكرى بذكرى… عاد للنبش في ماضيه الغابر…. لم ينظر إليه كما كان ولكن كما أراد له أن يكون…. يتعامل معه على أساس تقويمه وتصحيحه وليس لمجرد التلذذ بذكرياته…
فجأة يسمع صرير الباب وهو يغلق….. استفاق من شروده المفاجئ ليتفطن أخيرا أن ذاكرته ساقته إلى منعرج خطير فلا هو عارف أيستمر أم ينسحب؟ عادت به دونما سابق إنذار إلى تاريخ مضى إلى فترة انقضت إلى الوقت الذي كان فيه طفلا مندفعا حالما نشيطا… سنوات مرت كلمح البصر… غمره إحساس طاغي وهو يسترجع ذكريات طفولته البريئة والتي لم ينسها يوما… كما لم ينس الحضن الدافئ الذي اقتسم معه كل شيء ولا حتى الدراع الحديدي الذي حارب لأجله ليحضر له أي شيء/كل شيء….
بدأ يغوص في ماضيه. . تذكر يوم كان تلميذا بمجموعة مدرسية لا زال يرتعش منه القلب كلما مر على أطلالها العامرة/الخاوية…
وتذكر زميلته (أ) صاحبة الوجه البشوش والنظرات الحادقة والشعر الثائر… مازال يتذكر ما لقنته من مبادئ وطقوس لا حصر لها سنوات كافية لجعل كلما تعلمه يتقهقر إلى زوايا الإهمال…
بحث عن مكان يقيه من ترانيم الوجع الذي بات ينتظره أينما حل (ترقرقت عيناه بالدموع في خشوع وتبتل)…. دلف في حركة لا شعورية إلى منضدة كانت بمقربة منه تلعثم قائلا (بصوت متقطع) بالذكريات نخترق الزمان لنسافر في ثناياه في أوصاله في مطاحنه… لطالما تصور الذكريات كمساحيق تجميل تقلل من بشاعة مظهر الزمن الذي لولا عداده لعشنا في سلام ووئام تامين في حكاية صفحاتها مبهجة…
عبثا حاول أن ينام… لم يقوى تزاحمت الأفكار في ذهنه… يصغي بإمعان إلى صوت مرعب يدوي بداخله… مخلفا حشرجة رسمت على محياه سمفونية كئيبة… فتح رداهات خياله على عوالم جديدة على مداخل علها تخفف عنه وطئة الذكرى، فبحسب اطلاعه الحنين للذكريات وسم حتى أعظم الملاحم، فهذا كالكامش وقف على أعتاب فقد صديقه وخله (انكيدو) يرثيه ويبكي عليه… في واحدة من أعظم المرثيات في تاريخ الحب….
وهذا ميلان كونديرا يلعن السرعة ويدعو إلى البطء فالسرعة عنده ممحاة تمحو كل جميل بينما البطء هو الذاكرة هو الذكرى… أما نيتشه صاحب الشارب الأشقر والهامة المنتصبة في شموخ واستعلاء فيقول: ليست الأعالي ما يخيف بل الأعماق فعلى الجرف تحدق العين في الهاوي وتمتد اليد نحو الذرى فيقبض الدوار بالإرادتين على القلب.
دبت في شرايين جسمه قشعريرة خفيفة وهو يتساءل باستغراب من أين اكتسبت الذكريات كل هذه الأهمية؟ فهي تقف كلؤلؤة مفقودة شامخة صامدة أمام طواحن النسيان وعاديات الزمن… لها قوة سحرية وسلطة مستبدة،، تستطيع أن تجعلنا حال تذكرها نبتسم ابتسامة المنتشين، أو تجعلنا في كمد نذرف الدموع ونلعن الظروف…
فلتعلموا أن الذكرى لا تقاس بعدد الأولاد الذين خلفهم المرء.. وإنما بطيبوبة الروح وحسن الخلق….
فسلام على من غادرنا مكانا لكن ذكراه لم تغادرنا يوما…
.
.
الحسين الرحاوي – مدينة بني ملال
اترك تعليقا