الحسين الرحاوي يكتب: خمس دقائق

9 مايو 2020

في لحظة روحانية أحس كأنه يصارع أعزلا قوى غيبية خارقة تستميت لتسلبه وجوده… على السرير نعم على السرير؛ ذلك المكان الخطير الذي يموت فوقه الملايين يوميا. إنه مكان خطير غير آمن بتاتا…

ارتفع ضغط دمه تصلبت شرايينه، إحساس غريب ومرعب عَلِمَ أنها النهاية؟ لا فكاك إذن، انساب عنان خياله متأملا شريط حياته اندهش من هول قصره لدرجة أصبح عداد السنين مختصرا في أجزاء من الثانية، في انتشاء تام تراءت له صور  متزاحمة قديمة في ذاكرته اختزلت لحظات حياته الراسخة؛ العائلة، الأصدقاء، الإنجازات، الطموحات.. أغمض عينيه بتثاقل شعر بابتسامة مستهترة في تحد صارخ للألم الذي يعتصر في أحشائه، قَبِلَ قضاء الله وقدره، حقيقة تغيبها الغالبية بتعنت وغطرسة، اللحظة التي يعيشها لن تهزمها جيوش الدنيا وإن اجتمعت، وسمت على محياه تلك الابتسامة البائسة التي لطالما تفننا في رسمها دون الانتباه لها، تصلب جسده، لم يعد يقوى على رسمها مرة أخرى أبدا.

سرت رعشة غريبة من أخمص قدميه اجتاحت جسده ممزوجة ببرودة شديدة جعلته يرتعش من الداخل مذعورا، لقد أوشك ذلك المفجوع باستمرار، خزان الأحاسيس والمواقف والمحبة أن يتوقف، تيقن حينها إنها النهاية.

ما إن رفع سبابته حتى أخذ ينطق الشهادة “لا إلاه إلا الله” التي كانت هي الأخرى معتادة تنساب كنسيم الصباح، لكن هذه المرة بالكاد نطقها متلعثما بملامح ساكنة. لم يشغله شيء حينها، بقدر ما شغله انتظار قابض الأرواح ليخلصه من عذابه، ما دام ليس هناك فرق بين أن يموت الإنسان غرقا في الهموم، الحروب، البطالة، الحصار، أو حتى بالانسلاخ عن آهات الأمة بالغرق في الملذات.. قفز إلى ذهنه مشهد ختم به العرض تذكره بمرارة، إننا مارون جميعا فلا خير فينا إن لم نساعد من هو بحاجة إلينا، كلمات خرجت بعفوية شديدة ستبقى عبارة خالدة ليس بقيمتها الإنسانية ولكن لأنها كانت آخر كلمات دارت بينه وبين شقيقته؛ المسكينة ستشتاق إليه ستفتقده.

غرق كل شيء حوله في صمت مريب: الباعة المتجولين، سباق الدراجات التي يقودوها المراهقون، نداء النسوة على أطفالهن اليافعين، الخصومات، عربدة السكارى. اندثر كل شيء حوله وغاب في سواد كثيف، خفت صرير عربة الوقت.

تحرر تماما من قبضة الزمن اللعينة، بقيت خمس دقائق ما عاد شيء يربطه بالعالم الخارجي غير سمعه، تلك الحاسة التي أقسم بها الله عز وجل (والسمع والبصر والفؤاد) أبت إلا أن تجعله ولو للحظات في اتصال سمعي مع من حوله، بعدما يئس من استعطاف ملك الموت الذي ينفذ الأوامر في تفان تام وبدقة عالية.

[الله أكبر… الله أكبر] وبعدها صرخات هزت كيان الصمت المطبق الذي طبع الغرفة بأجواء روحانية، وجدته شقيقته مُمَدًّا بملامح لا تشبهه ولا هو يشبهها، انسكب كوب القهوة الذي ألف ارتشاف جرعاته بعد العصر، فجأة كل من كان في البيت هم مسرعا في ذعر تام إلى الغرفة ارتسمت وجوه كل من حظر بالذهول والشفقة، تلجلج لسان الجميع بعبارات الأسف والحيرة. اقترب مني شيخ بلحية بيضاء كثيفة تحسس عنقي بثقة واضحة، يبدو أنه ألف مشاهد الموت قائلا: [إنا لله وإن إليه راجعون، كل نفس ذائقة الموت].

لم تهدأ صدور من حضروا من النحيب والبكاء والنواح؛ أمه المسكينة لم تصدق لحد الآن ماذا جرى؟ وهل مات فعلا؟ تسمرت في مكانها تضم إليها جسد مُمَدَّد مصعوق فاضت  روحه تضرب صدرها بدقات منتظمة وهي تبكيه فهي لم ترى أحفادها بعد لقد كان قبل نصف ساعة في المنزل بصحة ممتازة مشاكسا ضاحكا. خارت قوى المسكينة أغمي عليها سقطت… المسكينة

بقي الشيخ ومعه أناس يظهر عليهم الوقار يتهيؤون لغسله وإجراء مراسيم وطقوس الدفن، عاد الضجيج يخيم على المكان تعالت منبهات السيارات، أصوات من داخل الفناء [اللهم ارحمه البركة فراسكوم..] صوت رخيم انبعث من المئذنة المنتصبة على صومعة في استعلاء تام  [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور] (آل عمران-185) تكسرت وطأة الهالة التي عمت البيت، ألف تأملها من شرفته التي لا يفصل بينه وبينها إلا مساحة فارغة يلعب فيها الصبية كرة القدم. لم يخطر بباله أن يكون هو الطريح، وكيف سيعرف، أليس الموت سر من أسرار الخالق، من منا يعرف متى أو أين يحل، ومن يختار، كل ما أعرفه هو أنه اليوم اختارني أنا، نعم أنا.

روحه رفرفت في غياهب الكون سابحة بين المفاجأة والذهول، وبين الحقيقة والخيال، عالم امتزج فيه كل شيء، صار وحيدا يسمع كل شيء ولا يسمعه أحد، سيجن، من الصعب أن يسلب الإنسان حتى من حق الرد، الآن سيحملونه على الأكتاف ويوارونه التراب، ها هو يغادر البيت لأخر مرة لكن هذه المرة خرج في مشهد كأنه اقتبس من مسرحية إغريقية قديمة، روحه ترفعت سمت سبحت، تتراءى له قسمات الشفقة والحزن، والندم، والآسف على وجوه من شيعوه، وحتى أولئك المارون بخطى مسرعة مخترقين الشارع كأن الجميع تدرب ليتفنن في استعراضها،  كاد يعترض كمن ارتجل خارج نص المخرج، صرخ  ظل صوته حبيس نفسه أريد منكم أن تحسوا بتأنيب الضمير الأسمى من أسفكم، وحزنكم  أن نحس بمعنى العطف على الآخر ليس لأني الضحية ولكن لأنه خلفي ملايين الضحايا، تخيل نفسه وكأنه يؤدي مشهدا لم يحلم كبار العلماء تبين معالمه، الصدق التام، يصرخ بأعلى صوته، يستنجد، امتزجت الحركة والصوت في بعد تام عن الزمان والمكان، في لا فضاء،

وجد نفسه يهوي في حفرة يتبارى الجميع في إلقاء التراب عليه لنيل الجزاء والثواب يستمر في المقاومة يستنجد يستعطف يشتم دون جدوى، ينتظر أن ينتهي المشهد أي مشهد انقطع سمعه الذي تمسك به إلا الأبد انطفأ كل شيء حوله وغاب في سواد كثيف.

يتبع الجزء الثاني

الحسين الرحاوي – بني ملال

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :