يُنادِيني المقال كَي أَكتُب، فَمَاذا أَكتُب؟ وعَماذَا أَكتُب؟ أَعَن أحداثِ اليوم، نداماتِ البارحة، أم مخاوِف الغد؟ هل أَصِف إلى ما أَصبَحتُ عليه، أم أتحَسر على ما لم أُصبِحه؟ ماذَا أَخُط، وأيةَ حروفٍ أَختار، كي أخرج بنتيجةٍ هي مقال؟ أي مقال أَتطلع إليه حقًا؟ وإلى أي مقالٍ يتطلع إليه قُرائِي؟ تَنظر إلي كلمة “المقال”، كما تنظر أمٌ إلى طِفلِها الذي لم يجمَع فِراشَه. “ما زِلتُ طِفلةً يا أماه، اعذريني هذه المرةَ فقط! أماه، ليس كل ما في البالِ يُقال!”
“وَما فِي بالِك؟” تُخاطِبني كأني المُتهم فِي قضايا الوَطن,
ليتهَا تَعلم، ويا ليتهَا تعلم.
ما في بالِي يُحكَى فَيُنسَى، يَتَولدُ ويتَجسد، يُهَدد القَلبَ حتى يكادُ هذا الأخير أن ينضب،
ثم يموتُ كأَنه لم يكُن.
فبِم أجيبك، وأنا ما بِبالِي لا يَسكُن؟
أتَسمر إذَن أنتَظر بعض الهدوء كي يُعِينني على تَرتيب ما فِي بالِي. لا أتَذكر متى قد أَخرَجت كُل شيءٍ من مكانِه ولم أُعِده.. فَوضى.. فَوضى.. متى تنتَهي هذِه الفَوضى؟
أنا الفَوضى، فَمَتى أَنتَهِي؟
أُضيع نَفسِي بين الأمواجِ والرياح، لا أعرف المَد من الجزر، ولا الجزر من المد.
كيفَ أَصبحتُ جَاهلةً إلى هَذا الحَد؟
أَنظر للأُفُق، فلا أرى الشمس. هُناك أيدٍ كَثيرةً تَحول بينِي وبين رُؤيتِها. كل هَذه الأيادِي تَطلُب مني أَن أتَمسك بها، تعتَقِد أني غَريقة.
كل هذه الأيدِي تَستنجِد، تعتَقِد أني مُنقِذة.
وأنا لا تلك ولا ذاك، لَستُ إلا عابِرة.
تُنشِيني الأُغنِيات العربية،
تُطَبطِب على ظَهرِي فَتُشفِي آلامه.
هَذه تتغنى بالحُب، وتِلك بالوطن،
هَذه بالأُم، وتِلك بالزمن.
لا يُوجَد موضوعٌ لم يَكُن ضيفًا على الأُغنية العربية.
وكل المواضيعِ بِبالي،
فكم من الوقتِ يلزَمنِي لِأُسمِعَك كل الأغنيات؟
وهَل ستَسمَع؟
تُهدد كلمة “المقال” مرةً أُخرى، فإني مَا زِلتُ لم أَكتُب أي شيءٍ مُفيد. كل هذه الخربَشة تَدعُو إلى الشفقة أكثر مما تدعو إلى التأمل. أطْمع فِي نصٍ لا شِيَةَ فيه، وأَحصُل على نُكتة, والنكتة تُضحِك، وأَنا نَصي يدعو إلى النفور. أَفلا تظنين أني لا أَعرِف ذلك؟ لَكنك ما تَزالين مُصرة أن أظَل أكتُب.يُؤلِمني صدري، وتَقتُلُني أنفَاسي المُتَسَارِعة بَعد أيةِ حركة، فما سلواني يَكونُ غَير الكَلِمة العربية؟ أنغَمِس بين أَوراقِي و مسوداتِي الناقِصة لِأَشعُر بي كَامِلة.
ترقُص أصابعِي، ويرقُص قلمي وسَطَها، يتعالَى على جَسَدي ويقُول: “أَنا لا قَيدَ يُقَيِّدُنِي”.
وَحِين يملأ عينَايَ الضباب، يُغِيثُني النسيم.
الليل بارد، ولَسعة النسيم ضرورةٌ لِتَكتَمِل الطقوس،
وأَكتُب.
فَمَاذا أكتُب؟ ولِم أكتُب؟
ذلِك من أمر الرب.
يَقول:”سَأَجتاحُك إن فَقَدتِ صوابَك”. آخر مرة حاولَ أحدهم أن يفعل ذلك، انتهت بِأن يَصفَعَنِي.
هَل أنتظر نهايةً مُختَلفة فِي حين أن البِداية واحدة؟
شأن النهايات، كَشأنِ أكباشِ العيد، كلها تُذبح في الأخِير؛ وأنا لست كبشًا.
كَفى مِن التلاعُب باللغة، لن أُحب شاعرُا آخر.
تَضرِب الكلِمات صَرامَتي عرض الحائط، إذ أن لها رَأيٌ آخر.
فَكيفَ لا أتَهَاوى أمام قصيدةٍ بُنِيَت بحروف الضاد؟
أَمتَهن غزل الوِشاحات، إذ أن مزيدًا من الليالي الباردةِ تنتظِرني.
ليلةٌ بيضاء، ونهارٌ أَسود، لما ماتَت جدتي.
لا أذكر أن عقلي كان صاحيًا أكثر مما كان آنَذاك. كُنت وحيدة في شقتي لما أَخبرتني أمي بالفاجِعة، وخُيل لي أن الموت أصبح فجأةً أمامِي.
يُحدق بي، ويَلحق بي للعَزاء.
ولِحد الآن ما زال هُنا، في الزاوية التي خَلفِي.
ينظر إلي بِخمول،
أتساءَل متى ينقَض علي.
أخيرًا، أستسلِم للأمرِ الواقِع. إننا نعتاد على التعايش مع كل شيء، حتى الموت نفسُه.
نَتَعايش، لكننا لا نتقبل؛
وإلا، آنَذَاك نَخسَر.
ما أزال أقتفِي صدَى الليل، وفي حين أن الشمعة تَعبت من مُجاراة الريح، أنا لم أتعَب,
أُعَرِّج على شِعر تميم البرغوثي، وأتذكرك فيه، وَأتَذكرك بِه.
تُقدم لي بعض أبيَاتِه الحَنينَ لِلَيلةٍ كُنت أنتَ فيه مُلقِيهَا، فأَشتاقُ إِليك.
هُناك أنا وأَنت.
فمتى نكون واحِدا؟
لَن نكُون.
أَظل أهذِي وأَترنح إلى أجَلٍ مَجهُول،
والمعلوم فضيحة.
أَقرأ لِلآخَرين، ولا أَجد كَلِماتِي في أي بئر من آبارِهِم.
أما بِئرِي أنا، فَقَد جَفتْ وقحلَتْ،
لكني ما أزَال أَخُط، وماذا أفعَل غير هذا؟
أتَلَعثم في مُحاولةٍ لِِمَعرفة المَجهول..
المَجهولُ حَقِيقَة.
أظُنني قد اكتَفَيتُ، وتهديد “المقال” لم يَعد يُخِيفني. لقد كَتَبتُ، ولا أَهتَم إِذ لم يُبَالِ بشَرٌ بِـ”مَقَالِي”.
حَسبي مُباركَات السماءِ والأرض.
إيمان إد صالح – مدينة تيزنيت
اترك تعليقا