توفيت أمها فتركتها وحيدة يتيمة وهي ابنة ست سنين. بعد اسبوع تزوج والدها بأرملة من أجمل نساء القرية، في ليلة الزفاف اصطحبت معها فتاة صغيرة لابد انها ابنتها من زوجها المتوفي. كانت الأم الجديدة في بادئ الأمر تعامل ابنة ذرتها المتوفية بلطف وحنان، لكن سرعان ما كشرت عن أنيابها ولبست قناع المكر والخداع، فصارت تجعل منها خادمة لها ولابنتها ذات العشر سنين.
منذ بزوغ نور الشمس تخرج إيطو دون فطور الى الرعي، تحمل في قطعة قماش كسرات من الخبز اليابس، تطرد بها شيطان الجوع، وقبل غروب الشمس بلحظات تجر خطاها الى المنزل متعبة جائعة، فتدخل على زوجة أبيها وتطلب منها طعاما تسد به رمقها، لكنها تُقابَلُ بالرفض والرفص والصفع، تتجه ناحية الباب باكية تنتظرة عودة أبيها، لكن زوجة الأب تجرها الى حضيرة الماعز وتربطها بعمود حديدي، فتأخذ في ضربها بالسوط حتى يخضر جلدها الناعم البريء. بعد أن يصلي العشاء في المسجد يعود المعطي الى منزله ليجد زوجته وابنتها في غرفة النوم، فيسألها عن ابنته لتخبره أنها عادت منذ حين فأطعمتها ثم نامت في الغرفة المجاورة. هكذا تعيش إيطو طفولتها البئيسة كل يوم. في أحد الأيام عادت من الرعي مبكرا وعند دخولها (الدوار) استرق سمعها صوتا يصدر من المدرسة، اتجهت نحوه بخطا ثابتة، فأطلت من ثقب في السور، ووجدت أطفالها في سنها ذكورا وإناثا جالسين على طاولات خشبية وأمامهم رجل يلبس بزة بيضاء يقول فيعيدون قوله، ويملي فيكتبون ما أملاه، ذهبت بسرعة الى المنزل جمعت ما فيه من أحذية بالية فراحت وباعتها، ثم اشترت قلما ودفترا، وعادت ثم جلست بجانب سور المدرسة تسمع وترى ما يملى على التلاميذ، فتحذو حذوهم. لسوء حظها عاد والدها فرآها على هذه الحال، امسكها من ذراعها الصغيرة بقوة فراح يجرها الى المنزل حيث ينتظرها السوط. يوم آخر لم تكتمل فيه فرحة إيطو وانتهى اليوم بحرمانها من وجبة العشاء.
بلغت إيطو سن الرابعة عشر، لكن إذا رأيت جسمها الذابل وقصر قامتها تحسبها لم تكمل العاشرة بعد، وفي إحدى الليالي بعد أن عادت من الرعي جلست في غرفتها مع أختها غير الشقيقة تتقملان طُرِقَ الباب، ففتح الأب وسمعتْه يقول :
مرحبا بالسي العربي تفضل.
لم يتفاجأ الأب من هذه الزيارة لأنه كان ينتظرها منذ المساء بفارغ الصبر، جلس الضيف فقام المعطي بواجب الضيافة، وبعد قليل انتشر صمت رهيب في الغرفة كأن كل واحد منهم ينتظر الآخر ليفتتح الكلام، كانت إيطو وأختها وراء الباب يسترقون السمع ليعرفن سبب هذه الزيارة الليلية، ثم كسر العربي هذا الصمت بقوله:
- تعلم يا أخي المعطي أن زوجتي توفيت قبل سنة، وقد كانت عاقرة ، وأنا على مشارف الخمسين أخاف ان أموت دون أن أخلف ذرية، ولهذا قصدت بيتكم أطلب يد ابنتكم الكريمة إيطو للزواج على سنة الله ورسوله.
عندما سمعت إيطو هذا الكلام كأن قارعة نزلت عليها من السماء، فقد كانت تحلم بالزواج من شاب وسيم يعمل في المدينة حتى يخرجها من هذا الجحيم، لكن الآن تحطمت كل أحلامها. وافق الأب دون تردد، وبعد أسبوع جاء العربي ليأخذ زوجته الى بيتها الجديد. وصل الزوجان الى بيتهما، ولم تكن إيطو سعيدة كما تسعد كل فتاة بهذا اليوم، لأنها انتقلت من جحيم الى آخر، ومن عيشة بئيسة الى حياة أبأس.
فتاة نحيلة في سن الرابعة عشر، تتزوج رجلا ذو جثة ضخمة شارف على الخمسين، فبعد أن اغتصبت طفولتها من أبيها وزوجته، ولم تحصل على أبسط حقوقها في الحياة، حرمت من التعليم ومن العيش الكريم، ولا ننسى حرمانها من حنان الأبوة والأمومة، والآن بزواج مبكر يُغتصب شبابها، أي حياة ستعيشها هذه المسكينة – ومثلها كثير-. وبعد مرور ثلاثة أشهر على زواجها اكتشفت إيطو أنها حامل، فلم تعد تقوى على جل أشغال المنزل الشاقة، ودائما ما كانت تفقد وعيها في الطريق عندما تذهب لجلب الماء من الوادي، وكان زوجها غليظا قاسي القلب يضربها كلما نسيت عملا من أعمال المنزل، وأحيانا بدون أي سبب.
كان المطر مدرارا ليلتها، وضعت إيطو رأسها على المخدة، فجاءها المخاض على حين غفلة وبدأت تصرخ من الألم، أفاقت زوجها الذي غط في سبات عميق، فظن انها مجرد لحظة ويذهب الألم عنها، لكنه استمر طويلا، ولم تعد قادرة على التحمل، إنها لم تصل بعد وقت الولادة، فما سبب هذا الألم، ربما هي ما يطلق عليه الولادة المبكرة، خرج العربي متجهة إلى منزل ( لالا تودة القابلة ) حتى تتكفل بتوليدها، ولما حضرت لاحظت أن الولادة ستكوت صعبة لأنها مبكرة جدا، حاولت أن تستخدم تجربتها القديمة في التوليد، لكن دون جدوى، فنادت الزوج وأخبرته بأن يذهب بزوجته الى المستوصف بأسرع وقت ممكن، فربما يكون لديها نزيف داخلي، لكن هذا الأخير يبعد عنهم قرابة الثلاثين كيلومترا، أسرع العربي فأخذ هاتفه واتصل بسيارة الإسعاف، والتي لم تصل إلا عند الثالثة فجرا، مازالت إيطو تصرخ من شدة الألم في رحمها، لكنها ما زالت متمسكة بأملها في الحياة، ركبا سيارة الإسعاف، فكان السائق يقود ببطء لوعورة الطريق وكثرة المنعرجات، بعد ساعة وصلوا الى المستوصف فوجدوه مغلقا، نادوا الممرضة لكن دون مجيب، وبينا هما جالسان ينتظران فُتِح الباب، – انظري هاقد أتت الممرضة – قال العربي، لكنه وجدها استسلمت للأمر الواقع، وأسلمت روحها لمولاها…
إسماعيل أوحمو -مدينة ورزازات
طالب سنة ثالثة بالمدرسة العليا للأستاذة بمكناس
اترك تعليقا