.. وبعد نهاية أسبوع شاق جراء عملها الروتيني، اختارت أن يكون آخره يوم عطلة تأخذ فيه قسطا من الراحة، ثم تقضي فيه مآربها الشخصية، ولما لا الترويح عن النفس قصد استجماع قوتها واستعدادها لبداية أسبوع بعزم وإرادة..
وهي في غرفة نومها اصطَفَت من الملابس أحسنها من تلك التي تشتمل على الألوان المفتوحة المزركشة.. ثم جلست أمام المرآة لبرهة من الزمن تصفف شعرها وتزين وجهها ببعض المكملات التي تزيد من جمالها جمالا..
أخدت حقيبتها اليدوية الصغيرة التي تخبئ فيها أشياء تخصها قد تحتاجها عند الضرورة.. ثم خرجت من شقتها الواقعة في الطابق الرابع من “إقامة المنار”. بعدها فكرت في استخدام المصعد بدل السلاليم ربحا للوقت. ليظهر طيفها أخيرا في الشارع وهي تمشي الهوينة، في اتجاه واحد دون الالتفات إلى باقي الاتجاهات الأخرى، لاحت لها في الأفق لوحة إشهارية لمقهى “الوردة”..
أسرعت الخطى لتصل أخير إلى فضاء المقهى، دخلت الفضاء، توقفت للحظة وهي تنظر في استغراب للمتواجدين فيه، ولأثاث المقهى الذي طبعته الأصالة وغمرته المعاصرة. ثم التفتت يمينا وشمالا لتقع عينها أخيرا على طاولة فارغة.. جلست على الكرسي، ثم وضعت حقيبتها اليدوية على الطاولة، وأخرجت منها هاتفتها الخلوي، بدأت تتصفح شاشته تارة وتنظر تارة أخرى إلى الزبناء الذين ارتادوا المقهى.. لقد كان أغلبهم من فئة الشباب إذ كل طاولة تجمع بين شاب وشابة في جو مفعم بالرومانسية، ما جعل خيالها يسرح في الأفق..،
في هذه الأثناء فاجأها النادل بالترحيب والسؤال دون سابق إنذار؛ كان يرتدي بدلة تميزه عن غيره، وتدل على أنه النادل بالفعل، شاب طويل القامة، ذو بشرة سمراء ووجه مستدير، لا يبخل بابتسامته على أحد..
– مرحبا سيدتي هل من خدمة؟
– نظرت إليه ثم قالت آنسة من فضلك…
– قال النادل مبتسما: عفوا يا آنسة هل من خدمة؟
– أجابت نعم أريد “جو درونج” بارد من فضلك.. ثم أردفت قائلة: ااه أقصد عصير ليمون..
– أجاب النادل قائلا: لا داعي للترجمة سيدتي.. عفوا-أقصد-آنستي…لا داعي للترجمة فأنا أفقه لغة المقهى، فهل من شيء آخر غير عصير الليمون..؟
-نظرت إليه وهي تبتسم…ثم قالت: أراك خفيف الظل
– أجاب النادل، والحركة أيضا، وإن كنت لم أفهم ما الذي تعنيه بخفيف الظل..
– ثم قالت: لا عليك أريد جريدة هذا الصباح وعصير الليمون فقط..
أحضر النادل ما طلبته الفتاة.. شكرته ثم شرعت في تصفح الجريدة وعصير الليمون أمامها ترتشف منه القليل بين الفينة والأخرى.. إلى أن وقعت عينها على صورة أثارت انتباهها.. كانت الصورة لشاب ثلاثيني يشبه نادل المقهى في هيئته الخلقية تماما..
أشارت الفتاة إلى النادل مرة أخرى.. نظرت إليه وأمعنت النظر دون أن تنطق ببنت شفة..
– قال النادل: ماذا تريدين يا آنسة؟ هل من خدمة أخرى أسديها لك؟
– قالت لا.. لا عليك. أريد الحساب فقط..
أخرجت ورقة نقدية وأعطته إياها، ثم قالت: يمكنك الاحتفاظ بالباقي..
تبسم النادل وشركها.. ثم سرعان ما غادرت فضاء المقهى صوب شقتها وبيدها الجريدة…
دخلت الشقة واتجهت مباشرة صوب الأريكة، تمددت وعادت تتصفح الجريدة من جديد، لقد وجدت فيها أشياء غريبة.. بدأت تقول بصوت عال-وكانت تعيش لوحدها في الشقة-إنه نادل المقهى حقا.. إنه هو.. لقد كانت صورته في الركن الخاص بالمقاولين الشباب. وأسفل الصورة بطاقة تعريفية تلخص بعضا من سيرته الذاتية.. استغربت الفتاة وقررت البحث عن اسمه في الإنترنيت عساها تجد شيئا آخر يخص حياته الشخصية والمهنية …
علمت بعد البحث والتقصي أن اسمه الكامل “أمجد الناعم” وأنه يشتغل مهندس معلوميات ورئيسا في نفس الوقت لمقاولة ذاتية في مجال الدعاية يقع مقرها في الناحية الشرقية للبلاد؛ ويعمل معه نخبة من شباب المنطقة ذكورا وإناثا..
هكذا ظلت “شمس” ترتاد المقهى كل يوم طيلة شهر كامل، دون أن تخبر النادل بما رأته في الجريدة، كانت ترغب في التثبت مما رأته، لقد كانت تقصد المقهى في الثالثة والنص عصرا من كل يوم، مباشرة بعد الانتهاء من عملها اليومي، كانت تأتي دائما في ذلك نفس الساعة والدقيقة بلا زيادة أو نقصان..
أَلِفَ النادل مجيئها الدائم. كان يشعر بالاستغراب أحيانا، خاصة عندما تحضر في الساعة نفسها وتختار نفس الطاولة التي جلست فيها أول مرة.. و يا لا العجب حتى الطاولة لا يختار الجلوس فيها أحد إلا هي.. قرر ألا يبالي بالأمر. فقال في نفسه: إنها مجرد زبونة تقضي مآربها كغيرها وتذهب في حال سبيلها.. لكن الأمر الذي أثار استغرابه أكثر؛ كونها كل مرة تلج فيها فضاء المقهى تقف لبرهة أمام المدخل.. حاول أن يسألها مرارا عن السبب لكنه لم يمتلك الجرأة.. لم يكن يعلم أنها كانت تحدد أثناء وقوفها الموقع الذي يوجد فيه هو قبل أن تجلس في مكانها المخصوص..
– تشير بيدها إلى النادل قائلة: طلبي المعتاد من فضلك..
ثم يلبي النادل على الفور، ومع استمرار الأيام صارت تكتفي بالإشارة، ويلبي هو مسرعا دون الحاجة للكلام.. وإن كانت ترغب في ذلك مرارا..
هذه المرة تشير بيدها ويأتي النادل بالطلب.. وتبدأ قصة اختلاس النظرات المتبادلة بينهما طلية تواجد الفتاة في المقهى.. ها هي تتصفح “شمس” الجريدة التي كانت تجد فيها صورة النادل دائما في نفس الركن الذي وجدته فيه في أول مرة.. وفي كل يوم أيضا تكتشف علاقة من علاقاته التي تجمعه بأصدقائه الشباب.. قررت “شمس” أخيرا وبعد طول تفكير قررت مفاتحته في الموضوع…
في يوم شديد الحرارة أنهت عملها وقصد المقهى دون الذهاب لبيتها كالمعتاد، ولجت فضاء المقهى ثم نادته قائلة بصوت مرتفع: من فضلك أريد منك خدمة.. كانت أول مرة تناديه بصوت مرتفع، استغرب النادل لأنه اعتاد على الهمس منها خاصة..
جاء النادل وقال: تفضلي سيدتي..
تبسمت وهي تنظر إليه ثم قالت: آنسة من فضلك..
-قال النادل: سيدة وآنسة في نفس الآن، فما رأيك..؟
أجابت قائلة: شكرا على المجاملة..
ثم رد قائلا: معذرة يا آنسة ما طلبك..؟
قالت: في حقيقة الأمر لا أريد شيئا مما كنت أطلبه عندما ألج هذا الفضاء، لا أريد عصير ليمون ولا جريدة، ولكن ما أريده أهم من عصير الليمون ومن..، أريد أن أسئلك عن بعض الأمور التي شغلت بالي منذ حوالي شهر؛ أي منذ أول يوم ولجتُ فيه هذا الفضاء..
– قال والابتسامة لا تفارق محياه.. كالمعتاد شهر كامل عساه خيرا ..
– قالت: نعم شهر وأنا أتصفح الجريدة التي كنت تزودني بها كلما طلبت ذلك، وأثناء تصفحي أجد صورتك في ركن من أركانها..
نظر إليها وقال: مراوغا.. صورتي أنا لا.. لا أعتقد، ربما هو تشابه في الصور ليس إلا.. ويخلقُ من الشبه أربعين..
– قالت “شمس” وهي تنظر إلى وجهه بإمعان: أؤكد لك أنك أنت، فلا تحاول المراوغة عبثا.. ففي بيتي كومة من الجرائد الخاصة بهذا الشهر، وفي ركن منها صورتك أنت وجماعة من أصدقائك.. اسمك “أمجد” وتشتغل مهندسا معلوماتيا كما تترأس مقاولة ذاتية أيضا..
ظلت تحكي له عن جميع معطياته الشخصية وعن بعض المعطيات الخاصة بأصدقائه، لقد حفظت كل شيء عن ظهر قلب.. ظل بدوره يستمع لها بإمعان دون النطق بكلمة واحدة إلى أن أنهت كلامها.. ثم قال: في سخرية السيدة الآنسة المحققة، ترى.. هل من مزيد؟
قالت المزيد ما ستقوله أنت-طبعا-فهلا شرحت لي سبب هذا التنكر، وسبب تواجدك هنا؟
قال: القصة وما فيها أنني أشتغل نادلا في هذه المقهى، هذا كل ما في الأمر..
قالت: هذا هو الظاهر لرواد المقهى، وقد كنت أنا منهم إلى أن تبينت لي الحقيقة يوما بعد يوم، وأحببت أن أعرف سبب هذه المسرحية وسبب اختفائك وراء هذا القناع ..
تبين للنادل أنها مصرة على معرفة الحقيقة.. سرح في التفكير قليلا، ثم قرر أن يخبرها بالقصة كاملة شريطة أن تحفظ السر، قالت وهي تبتسم: السر ذلك من اختصاصي، فاعلم أنني بئر عميقة معطلة لا يستسقي منها أحد..
اقترح عليها أن يلتقيا في نهاية الأسبوع بعد صلاة العصر مباشرة في الحديقة المحادية للشارع العام.. أجابت-دون تردد-بكل سرور سأكون في الموعد.. افترقا حينها دون أن يسألها عن شيء حتى عن اسمها.. ذهبت.. وما إن وصلت الشقة التي تقطن بها حتى بدأ التفكير يراودها من جديد.. ظلت تفكر في ذلك الموعد، كما ظلت تفكر في النتيجة؛ كيف ستكون؟ وهل سيقول لها “أمجد” الحقيقة كاملة؟ أم أنه سيستمر في مسرحيته تلك..
وضعت “شمس” مجموعة من السيناريوهات عساها تكون صحيحة، لكن في المقابل ظل التفكير يسيطر على مخيلتها إلى أن جاء اليوم الموعود.. لقد أعدت له العدة، وهيأت في ذهنها قائمة طويلة من الأسئلة التي يمكن أن تطرحها على النادل المزيف في نظرها ..
وصل أمجد أخيرا إلى فضاء الحديقة الكبيرة.. اختار مكانا مناسبا بين الأشجار، جلس والتفكير لا يفارقه هو الآخر.. ترى من تكون هذه الفتاة وما غايتها..؟ سافر هو الآخر عبر مخيلته إلى عالم تجاوز فيه حدود المعقول، إلى أن باغته صوت نسوي رخو.. ها أنا قد أتيت أخيرا.. معذرة عن التأخر، ثم قالت وهي تبتسم: ربما تعرف ما تحتاج إليه النساء من الوقت قبل القيام بأي عمل، خاصة إذا كان مهما..
قال والابتسامة تعلو محياه-كالعادة-لا.. لا عليك، للتو وصلت أنا أيضا.. ثم أردف قائلا: وبدون مقدمات تفضلي يمكنك الجلوس.. جلست الفتاة وهي مندهشة لما رأته.. لقد تغير تماما وكأنه ليس النادل الذي عهدته.. لباس عصري أنيق، وتسريحة شعر جذابة.. قالت في نفسها: إنه يختلف تماما عن النادل الذي رأيته في ذلك اليوم لأول مرة.. حقا إنه المهندس “أمجد” الآن تأكدت..
بادرت بالكلام وقالت: اسمي “شمس”
رد “أمجد” قائلا: تشرفت بمعرفتك اسم جميل كصاحبة الاسم تماما، ثم تابع كلامه وقال: مرحبا يا آنسة.. ثم قالت دون أن تترك له فرصة التعريف بنفسه: وأنت “أمجد الناعم” طبعا، قال: أما وقد زال القناع فأنا أمجد.. أنا ذلك الشاب الذي كنت تجدين صورته في بعض صفحات الجريدة كل يوم .
قاطعت حديثه قائلة: مهندس نادل، شيء لا يصدقه العقل، ترى ما الداعي لذلك؟
قال أمجد: تعلمين-من خلال ما اطلعت عليها أيتها المحققة-أنني أترأس مقاولة في مجال المعلوميات والدعاية..
قالت: لقد اطلعت على هذا في الجريدة، وبحث عن تفاصيله في الإنترنيت أيضا..
قال أمجد: ولم كل هذا الاهتمام يا ترى؟
أجابت: إنه الفضول ليس إلا.. إنه الفضول الذي يميزنا نحن البشر.. بل قل نحن النساء.. نحب أن نعرف كل شيء وأحيانا بالتفصيل الممل.. وخصوصا أنا.. دائما أحب معرفة تفاصيل كل شيء يصادفني..
قال أمجد: حسنا سأتقمص دور شهرزاد إذن وأحكي..
قالت مبتسمة لا بل شهريار، لكن احكي..
قال: في المقاولة يشتغل معي عدد كبير من الناس أغلبهم من الفئة الشبابة، كل ومجالات اشتغاله. لكن قاسمهم المشترك هو الظروف الاجتماعية التي قست على كثير منهم فيما مضى، إذ أغلبهم-وأنا منهم-جئنا من عالم نائي فقير، لم نكن نفكر يوما أننا سنصل إلى ما نحن فيه..
أجابت شمس قائلة: كيف ذلك؟
قال سأحكي لك عن السبب الذي جعلني اشتغل في المقهى نادلا، لقد اجتمعنا نحن شباب المقاولة وقررنا أن بأعمال تطوعية يمكن للآخرين الاستفادة منها وفي نفس الآن نرد الاعتبار لعدد من الفئات الاجتماعية التي تكسب قوت يومها من عرق جبينها دون كلل أو ملل.. كانت الفكرة من اقتراح أحد الأصدقاء، ناقشناها ثم نالت إعجاب الجميع، بعدها فكرنا في المهن الاجتماعية التي يمكن أن نقوم مقام من يشتغل فيها على أن يستفيد من عطلة أو راحة لزمن محدد دون المساس بأجرته..
وهكذا كان من نصيبي أن أشتغل بعضا من ساعات النهار نادلا في المقهى بدل “العم سعد” الذي كان بالفعل يحتاج إلى تلك الراحة، فهو رجل كهل قادته ظروف الحياة للاشتغال في هذا العمل، قررت أن أنوب عنه لمدة شهر كامل. قالت شمس- مقاطعة إياه بعدما ظلت صامتة-قلت بعضا من ساعات النهار، وقلت شهرا.. قال: أمجد نعم، فمن الصدف أن ذلك اليوم الذي ولجت فيه فضاء المقهى كان أول يوم عمل لي فيها كنادل.. أكثر من ذلك فقد كنت أسبقك إلى المقهى فقط بربع ساعة بحكم عملي.. قالت ولكن كنت لا تبدو كذلك لقد تبدى لي أنك معتاد على العمل تماما.. فقد كنت تتقن عمل النادل أيما إتقان.. لباقة كلام، وخفة روح، وسرعة بديهة.. وسرعة إنجاز أيضا..
أجابها قائلا: نعم أنت على صواب، فقد اعتدت على الأمر، لكن منذ سنوات خلت، مذ أن كنت طالبا في الجامعة، عندما كنت أشتغل في نهاية الأسبوع، وفي العطل كذلك.. كي أوفر بعضا من حاجيات الدراسة ومتطلبات العيش..
تدخلت شمس قائلة: الظروف الاجتماعية مرة أخرى.. لكن قل لي ما قصة الشباب الذين تكون إلى جانبهم في الصور المدرجة على الجريدة؟
أجابها قائلا: هؤلاء الشباب يا شمس أبناء المنطقة التي ولدت فيها وكبرت فيها، منهم من ولج سوق الشغل والمهن الحرة منذ وقت قريب، ومنهم من لا يزال عاطلا عن العمل. وربما لاحظت يا شمس-أيضا-أن كل صورة تكون مرفقة بسيرة ذاتية لأحدهم تعرف به وبميولاته ومجالات اهتمامه..
قالت شمس: نعم هو كذلك .
ثم أردف قائلا: وبحكم وظيفتي؛ فأنا لدي علاقات عمل واسعة مع مجموعة من الشركات والمقاولات الكبرى، ما جعلني أفكر أن اشتري ذلك الركن-الذي وجدتني فيه-قصد التعريف بهؤلاء الشباب، وأعلمي أيضا أن الصدفة هي من جعلتك تقرئين الجريدة دون سواها لأنني لم أكن لأفرض على زبون الاطلاع على هذه الجريدة دون سواها..
كانت غايتي من ذلك كله أن يجد شباب المنطقة من يساعدهم في تحقيق طموحاتهم، أو ربما تعرض عليهم-عن طريق تلك الإعلانات الاشهارية-وظائف يحاربون بها شبح البطالة القاتل.. لقد استفاد من هذه العملية عدد كبير من أبناء المنطقة فمعظمهم الآن يشتغل في أقطاب صناعية وتجارية كبرى …توقف أمجد عن الكلام للحظة ثم قال:
معذرة يا آنسة أكثرت من الحديث دون أترك لك مجالا للكلام عن نفسك ولو قليلا..
أجابته وهي تبتسم.. أنا لم أعد تلك الآنسة، كما لم تعد أنت ذلك النادل الذي يشتغل في المقهى، أنا شمس وأنت أمجد.. حقا اسم على مسمى، قلَّ ما تجد شابا له نفس التفكير ونفس الإرادة.. شاب يفكر في الآخر أكثر من نفسه..
أجابها قائلا: ربما هو كذلك؛ إذن فمن تكون شمس؟ أهي الكوكب الذي أعرفه؟ أم كوكب آخر أجهله، ضحكت وقالت: شمس اسم فقط، وكوكب تجهله حقا ..
قال أمجد: كيف ذلك؟ لم أفهم، إنه الغموض الفلسفي مرة أخرى.. لاحظت أنك تلغزين بعض الشيء…
قالت: بكل بساطة لأنني طبيبة نفسانية.. أنتمي إلى عالمي الخاص ولا أنتمي إلى هذه المدينة، لكن قدر لي إتمام دراستي بها ثم العمل فيها أيضا.. إلى متى لا أدري.. قاطع حديثها قائلا: ربما الى الأبد. فقالت ربما قد يكون ومن يدري؟
لقد جئت من الجنوب حاملة هموم أسرة فقيرة؛ تعاني من مرارة مجتمع قاهر لا يرحم، أسرة فقدت أعمدتها الأساسية منذ مدة، كان هما الوحيد هو رؤيتي في وضع اجتماعي مخالف لوضعهم ذاك.. لكن هيهات هيهات فقد باغتهم هادم اللذات على حين غرة ..
تدخل أمجد في هذه اللحظة بعدما لاحظ أن دموعها صارت تنهمل على خدها.. وقال لها: أنا آسف ذكرتك بماض مرير.. ثم سرعان ما ابتسمت وقالت طبيبة أسمع هموم الناس، ومعاناتهم النفسية، أصف لهم أدوية تلائم وضعهم النفسي والصحي وما فكرت يوما معالجة نفسي.. قال أمجد وهو يبتسم: ما رأيك بي طبيبا..؟
أجابت مبتسمة: تريد أن تكون نادلا، مهندسا، طبيبا، وأشياء أخرى لم أعرفها بعد.. لقد أتيت على كل المهن.. حقا أنت مميز ..
مر الوقت دون أن يستشعرا ذلك، نظرت شمس إلى ساعتها اليدوية، ثم قالت: عليا أن أغادر الآن، أراك في المقهى المعتاد أيها النادل، قال مبتسما أو في مكان آخر أيتها الطبيبة المحققة.. أضحت علاقتهما تتطور شيئا فشيئا.. أحس أمجد أنه ينجذب إليها لكنه لم تكن له القدرة على الإفصاح.. لكنها كانت تحس بذلك من خلال عينيه زمن التقائهما.. حاولت هي الأخرى أن بادلته نفس الشعور العاطفي، فكانت تفصح عن ذلك مرة، وتكتم مرة.. استمرت علاقتهما وهم على هذا الحال لأشهر عديدة..
كان أمجد يكتشف كل يوم أنها تتميز عن الأخريات، ربما كان السبب تقارب وضعهما الفكري، أو الاجتماعي الماضي منه والحاضر، وذلك لأنه هو عاش نفس التجربة التي مرت بها.. أما شمس صارت تنظر إليه على أنه الركن الشديد الذي يمكن أن تأوي إليه في يوم من الأيام.. ازداد تعلقها به، قررت مرة أخرى التعبير له عن شعورها تجاهه، أحست بالخوف وسرعان ما تراجعت عن قرارها ذاك..
انتهى أخيرا دور النادل، لتبدأ مشاهد أخرى من مسرحية أخرى، هذه المرة أكثر واقعية، لكن بموضوع مختلف.. اختلى أمجد بنفسه ثم صار يفكر في شمس، هل يا ترى ستكون المرأة البطلة التي ستشاركه مسرحيته الجديدة، أحاطت عقله أسئلة لا متناهية.. أخرج هاتفه اتصل بها قائلا: شمس أريد أن أراك عصر اليوم إن أمكن.. أجابت حسنا، لكن أين؟ قال دون أن يفكر: في المقهى، في مكان تعارفنا الأول..
كانت أسرع ساعات عمل قضتها شمس في عيادتها الطبية، أنهت عملها توجهت صوب بيتها، غيرت من ملابسها، وأعدت نفسها، وكأنها أحست بشيء سيقع، خرجت مهرولة تحاور نفسها قائلة: اليوم نهاية المسرحية ولا شك، ترى هل سيموت البطل..؟ وصلت أخيرا، دخلت المقهى حددت موقعه، استغربت من جديد، فقد كان يقدم خدمة لزبون، نظر لساعته اليدوية، ثم التفت إلى مدخل المقهى وإذ هي جامدة في مكانها لا تتحرك..
أشار إليها.. اقتربت منه، ثم قال: مكانك المعتاد فارغ تفضلي، ثم تابع كلامه عصير ليمون وجريدة هذا اليوم، أليس كذلك يا آنسة..؟ قالت: كفاك مزاحا يا أمجد، هلا أخبرتني سبب دعوتك لي على عجل.. شد على يدها وهي تنظر إليه باستغراب.. لم يفعل مثل هذا قط.. قامت من مكانها، ثم همت بالمغادرة لكنه أعترض طريقها.. ثم جثا على ركبتيه؛ أصيب جميع من في المقهى بالذهول..
أخرج من جيبه علبة حمراء بداخلها خاتم من لؤلؤ، قدمه لها وهو يقول أريدك زوجة لي.. نظرت يمنة ويسرة اختلط عليها الفرح بالبكاء، صارت تمر أمام عينيها مشاهد وصور.. والديها، بلدتها، الجريدة، النادل في لباسه المخصوص، المهندس الأنيق صاحب القلب الطيب.. ها هو الآن يطلب يدها للزواج، ترى أهي شفقة منه؟ أم حب حقيقي يمكنه أن يدوم، نظرت في عينيه تأكدت أنه صادق، تماما كما عرفته في أول يوم.. قبلت تحت تصفيقات رواد المقهى، وبحضور “العم سعد” بعدما تماثل للشفاء تماما وعاد على رأس عمله، اقترب “العم سعد” من شمس كباقي الحاضرين، ثم قدم لها بدوره جريدة اليوم كهدية عربون إخلاص.. ضحك أمجد وقال: وأين عصير الليمون..؟
إبراهيم الطاهري-مدينة بني ملال
احسنت
مسيرة موفقة السي ابراهيم …
ننتظر روايات بفارغ الصبر
❤❤