.. عاد إلى مسقط رأسه بعد غياب دام لأشهر، تلقى دروسا في مختلف مناحي الحياة إلا دروس الطفولة فقد تخطاها متأهلا بشكل مباشر إلى عالم الكبار.. بقي في بيت والده وتحت حراسة أخيه، بقي أياما قليلة فقط، كان يعدها عدا، لكن سرعان ما اختلط عليه العد ولم يعد يتحكم في الأرقام، لم يعد يتحكم في ترتيب الأيام، لم يعد يتحكم في ترتيب الوجبات، صارت الوجبات عنده بلا طعم.. غاب المذاق، غابت الملوحة، غاب كل شيء حلو..
لقد أفاق في صباح يوم مشمس ووجد نفسه محاطا بكل من في الدار.. الكل ينادي باسمه، يسألونه عن حاله عجز عن الرد.. لم يقدم جوابا، واكتفى بالتأمل؛ تارة في وجوه الحاضرين واحدا تلو الآخر.. وتارة في السماء، ترى ما سر هذا الغياب؟ بعد لحظات استعاد وعيه علم من إحدى أخواته أنها وجدته ملقى على الأرض في إحدى غرف البيت.. نظر إليها نظرة المغشي عليه وسرعان ما غاب عن الوعي مرة أخرى..
لقد أصيب بمرض لم يكن من المستطاع كتمانه إطلاقا.. مرض جلدي داء وبيل أشعره لأول مرة-بسبب ثقل وطأته-بالملل من الحياة، تلك الحياة التي غابت عنها الأم، ثم غاب عنها الأب، وغابت عنها المربية أيضا.. حياة في نظره مليئة بالوحدة لم يبق فيها سوى أنين المرض والآلام.. معاناة طالت واشتدت حتى حسبه أهله والجيران أنه من الهالكين لا محالة..
انقطع حبل التواصل بينه وبين الناس؛ كان ينظر إليهم على أنهم مجرد جمهور غفير من الناس يشاهدون مرضه بالبث الحي.. يضحكون ويقهقهون وهم يشربون الشاي ويتناولون الحلوى وما جادت به عليهم زوجة الأخ الأكبر من مأكولات أخرى.. وكان أغلبهم يأتي لذلك الغرض، يقضي مآربه ويغادر بدون رجعة إلا من رحم الله.. وكان أغلبهم نساء..
كان يحاول مرارا أن يشرح لهم ما يعاني منه، يحاول أن ينقل شعوره إليهن، فهذه تهز رأسها تحسرا، والأخرى توصيه بالصبر..، والثالثة تكتفي بترداد كلمة مسكين، لا يستأهل ما آلت إليه صحته.. طفل في عمر الزهور، ينبغي أن يلعب مع أقرانه.. ثم يوجَّهُ الخطاب-بصوت واحد-لمن كان حاضرا من أهله؛ عليكم الظفر به قبل فوات الأوان.. لم تكن الحالة المادية للعائلة تسمح بأن تستعين بالطب على مقاومة الداء الذي أصابه..
بدأ يفكر في الماضي القريب الذي لم ينته ألهمه بعد، وربما سيدوم.. لم تكن تلك أول تجربة مَرضِيَّة، بل هي تجارب وآلام عاشها زمن وجوده في كنف مربيته “فطومة” معاناة عاشها لكن بطرق تختلف عن المرض الذي هو تحت وطأته الآن.. فقبل أعوام قليلة من حالته التي هو عليها كان يلعب منفردا كعادته وإذ به يقع مغشيا عليه جراء ما أصابه.. كانت كارثة بكل المقاييس لقد كسرت يده اليمنى دون سابق إنذار.. خلفت صدمة كبيرة على أفراد عائلته بما فيهم مربيته، كارثة قيل إن السبب وراء حدوثها طفل صغير من أبناء الجيران.. كانت أول جريمة حرب بدون سلاح، ودون سبق إصرار وترصد، أول جريمة ارتكبتها يد بريئة في درب الشيخ وربما في البلدة كلها..
بدأت الحكاية عندما كان يلعب وراء باب منزلهم القديم.. باب متوسط الحجم تقليدي صنع من خشب، توجد في واجهته الأمامية خرصة صدئة ومسامير مستديرة، كان باب البيت يشبه باب القصر تماما، إلا أنه يصغره حجما، وفيه من الثقب ما فيه حتى عاد كالغربال القديم لا يكاد يستودع سرا وراءه، لكنه استودع سر وجود الطفل لما كان يلعب وراءه غير مكثر لما سيقع بعد حين..
في لحظة لعبه وراء الباء وهو يتسلق عتباته الخلفية جاء الطفل “خالد” وكان يكبره بثلاثة أعوام، جاء، فدخل المنزل بعدما وجد بابه مشرعا، وسرعان ما دفع الباب بقوة دون الاكتراث لمن كان خلفه إلى أن سمع صوت عظام الطفل وهو يلعب من خلفه، لقد كسرت تماما.. لقد كسرت يده من الكتف..
لم يعد حينها قادرا على التلويح بيده اليمنى.. هنا قطعت الصلة بينه وبين العالم الخارجي، إلى أن جاء قرار أخده إلى شخص معروف بتجبير العظام المكسورة، وبالفعل كان، ويا ليته لم يكن..، لقد زاد الرجل الطين بلة، فكان أول دوائه الكي، ولم يعرف بعده سبيلا لدواء آخر..
كان رجلا متوحشا في أفعاله لا يعرف من لغة التواصل سوى اللهب والسفافيد والكبريت والجمر وكل مشتقات النار، كان ينعت ب”القصري” وهو اسم على مسمى بالفعل، لأنه لم يقصِّر في جعل صحة الطفل تدهور مع مرور الأيام شيئا فشيئا.. لم يستخدم يده في الأكل.. ولا في الكتابة فيما بعد بسبب ذلك الكي الذي لم يكن آخر الدواء، بل كان أول البلية عليه.
بقي على حالته تلك، ينام مع الألم ويستيقظ معه، ومربيته تقاسمه إياه، لقد كانت تربط يده اليسرى مع رقبته حتى لا يستعملها أثناء تناوله لوجبات الطعام إلى أن اعتاد على الأمر، فلحت المربية في ذلك، لكن بقي يكتب بيده اليسرى ذلك لأن المربية تكن حينها، فقد صارت أما لطفل في هذه الأثناء..
أحس بعجز جميع أفراد أسرته، فلم يستطع أحد منهم تقديم أية مساعدة مُجْدِية، ليس لأنهم لا يرغبون في ذلك، ولكن لقلة حيلتهم، وانعدام مادتهم.. لا أحد فكر في أخذه إلى الطبيب، وأي طبيب، ففي الأصل لا يوجد..، فالمستوصف الوحيد الذي يقرب سكانهم لا يوجد به سوى ممرضة كانت تكتفي بالنظر إلى مرضاها الذين يغدقون عليها بالعطاء فقط “بيض” و”فراخ” و”ثوم” وأشياء أخر.. كانت توجههم مباشرة-بعد دردشة لا تتجاوز الدقيقة تسأل فيها عن السبب- توجههم إما لبيوتهم آخذين بيدهم مرهما أصفرا وبعضا من العقاقير البيضاء.. أو توجهم إلى أقرب مستشفى ظنا منها أن العلاج هناك، لكن هيهات هيهات..
اكتفى أفراد أسرة الطفل ببعض الوصفات التقليدية، كانت تحضرها زوجة أخيه بعدما تسمعها من أفواه نساء البلدة هنا وهناك على أمل الشفاء.. كانت الوصفة مكونة من عدد من الأعشاب النباتية ذات الأسماء الغريبة، فقد كانت زوجة أخيه تعرفها جملة، أما الطفل فلا يعرف لها سميا.. كانت تضعها في قدح وتمزجها بالحناء والسكر، وأحيانا برفات البقر ثم تلطخ جسمه النحيل بالكامل، حينها كان يصاب برعشة من البرد رغم حرارة الجو فيزمّلونه بالأغطية، لكن تزداد القشعريرة شدة، ويزداد شعوره بالعجز يوما بعد يوم..
لقد أبدت الوصفات العديدة التي كانت تغطي جسمه يوميا، أبدت مفعولها، فصار يتماثل للشفاء خاصة بعدما قرر الاعتماد على نفسه واستجماع قواه، نسل الأغطية الثقيلة عنه، وتمرد على المرض، فرغم إحساسه بالوحدة من جديد-وإن كان الناس من حوله يتصايحون-إلا أنه كان لا يحفل بهم ويسعى بخطى متعثرة، وهو يكاد يتداعى من الضعف والمرض..
ومع مرور الأيام، وإلحاح المرض، تعود الصمود في وجهه، وشعر بأن الاستسلام له يزيده قوة؛ فبدأ يتعود السير على قدميه بمفرده ما إن يجد فرصة مواتية لذلك، هكذا لم يعد ينتظر الشفاء، وكانت حينها عبارة “من تركه القبر ينجبر” هي العبارة التي كانت تردد من قبل النساء اللواتي كن يزرنه في البيت ويتحسسون أخباره، خاصة تلك المرأة الطاعنة في السن التي كانت تدعى “عيشة” أو “شاشة” كما كانت تحب أن تسمع من أبنائها وأحفادها وباقي الجيران..
كانت شاشة تسكن بالجوار مباشرة، أم لابن وحيد اسمه “أحمد” وعدد من البنات، كان لا يفصل بين بيتها وبيت الطفل سوى جدار قصير يتخلله ثقب يسمى عند أهل البلد ب “الكوة” إذ عبرها كان يتواصل الجيران فيما بينهم، ولهم فيها مآرب أخرى، فهي جسر لتبادل تهاني وتبريكات الأعياد والمناسبات.. وتبادل الأطعمة..
إبراهيم الطاهري- مدينة بني ملال
اترك تعليقا