إبراهيم الطاهري يكتب: المربيـــة والربيب..

6 يونيو 2020

.. هكذا بقي الطفل في كنف مربيته “فطومة” التي تزوجها والده لذلك الغرض.. ظل تحت حمايتها وتحت حماية بعض أفراد أسرته الصغيرة، بعدما لحق والده بأمه؛ إلى الدار الآخرة، بقيت المربية على العهد، كانت أُمًّا حنونة تقدم له كل ما تملك، وتسعى في توفير ما لا تملك من أجله، إيمانا منها بأن الأم هي من ربت لا من ولدت، لم تكن عبارة الربيب يستحيل أن يكون حبيبا تعنيها في شيء، كانت تخاف عليه فقط، تخاف عليه حتى من أختيه الصغيرتين “لطيفة” و”مليكة”، لقد كانتا في سن الزهور؛ الأولى تكبر الثانية بثلاثة أعوام، وهما معا يكبرانه بسنوات قليلة، لقد كان يحبهما حبا شديدا، بقدر الحب الذي كانت تكنه مربيته له..

كان يشبه والدته في لون بشرة وجهه، لامع الشعر، ذو عينان رماديتان يسر من نظر إليه؛ أوصاف جعلت مربيته تُصدر ذات صباح قرارا لا رجعة فيه، ومن ينازعها وهي الآمرة الناهية الوصية على تربيته.. لقد أحلقت شعر رأسه بالكامل، ثم أرغمته على ارتداء عباءة حريرية خضراء، قصيرة لا تتجاوز حد الركبة..

كانت تظن أن تلك الأمور ستجنبه كيد المبغضين، وتكون له حرزا من حسد الحاسدين، لم تكتف بذلك.. عمدت إلى ثقب أذنه اليمنى، ثم جعلت خيطا أخضرا باهت اللون داخل الثقب..، وخيطا آخر جعلته يحيط بعنقه وقد علقت به تميمة على شكل يد خماسية الأصبع صفراء اللون لامعة، يظنها الرائي من بعيد ذهبا خالصا، لكنها كانت مصنوعة من نحاس.. وقد تكون ذهبا ومن يدري..؟

استمرت المربية على حالتها تلك؛ متخذة سبلا كثيرة غلب عليها طابع الخرافة، كانت تجعلها دِرعا واقيا لابنها بالتربية، فخوفها عليه جعلها تفعل كل شيء مستحيل مقابل شعوره بالهناء والسعادة.. سعادة الأم بأبنها.. أمومة طالما تمنتها لنفسها عندما كانت زوجة لرجل آخر قبل أن يطلقها بدعوى عدم الإنجاب..

كان الطفل الربيب سمعها الذي تسمع به، وبصرها الذي تبصر به، تمرض إذا مرض، ولا تجوع إلى أن يأكل، تسهر الليل إلى أن ينام، بل كانت أحيانا تخاصم القريب والبعيد من أجله، بما فيهم أختها زوجة ربيبها الثاني “عزيز” الذي يكبره بسنوات والذي كان له فضل عليه في التربية والرعاية كذلك.. ظلت المربية على حالتها تلك مدة من الزمن..

تمضي الأيام.. والطفل يكبر أمام عينيها وبين يديها.. إلى أن نادى مناد بزواجها من جديد.. كان الربيب في ذلك الحين قد بلغ من العمر أربع سنوات ونصف تقريبا.. رفضت المربية المسكينة فراق طفلها، بل أعرضت عن فكرة الزواج أياما ليست بالقليلة.. كانت تصدهم وتقول: عبثا تحاولون، خاصمت على إثرها كل من كان يناقشها في ذلك الموضوع، لكن هيهات هيهات، أين المفر؟ فضغط والديها كان قانونا لا يناقش، والدها الصارم، ووالدتها التي كانت تردد كلما سنحت لها الفرصة لذلك، كانت تردد عبارة “وهل يستقيم الظل والعود أعوج” وتخاطبها قائلة: اعلمي يا ابنتي أن المجتمع لا ينظر إلى الثمر فقط، بل إلى النخلة أيضا، وقد يحملها مسؤولية ما آلت إليه ثمارها..

أحاطها كلامهم عن اليمين وعن الشمال، صارت تسمع نفس الأغنية أينما حلت وارتحلت.. أيقنت أنه لا مفر، خاصة وأن العمر يسير بها إلى الأمام، يسير بها نحو المجهول.. وهي في حاجة ماسة إلى ركن شديد تأوي إليه.. زوج يكون لها عونا على صعاب الحياة، وربما ينجيها من سخط المجتمع الذي لا يرحم..

أخيرا وافقت على الزواج مكرهة، تقرر العرس.. وبين عشية وضحاها أقيم..، كان عرسا بسيطا حضره أهل العروسة الأم، وبعض من أهل العريس، الكل كان مبتهجا في ذلك اليوم، إلا العروسة المسكينة التي ظلت تفكر في مصيرها المحتوم، وفي طفلها الذي سيبقى وحيدا بعد رحيلها بعد ألفة بينهما دامت لأعوام..

لم تكن بيدها حيلة، كانت مرغمة لا بطلة.. ها هي قد زفت أخيرا إلى بيت زوجها “الحاج محمد” رجل طاعن في السن، لكنه كان ورعا، فقيها حاملا لكتاب الله.. توفيت زوجته هو الآخر وتركته وحيدا يرعى ما بقي من أبنائه الصغار دون التفكير في الزواج، إلى أن زفت “فطومة” زوجة له، وبذلك تربعت على عرش منزله..

لقد كُتب عليها أن تكون مربية هنا وهناك.. هناك في بيتها الجديد صارت تغدق بحنانها.. على ابن زوجها الجديد “عبد الغني” صبي توفيت والدته وهو يبلغ من العمر عشر سنوات ونيّف.. ظلت الزوجة المربية وفية مخلصة لزوجها لسنوات طويلة، إلى أن استبشرت بحملها الأول.. لقد رُزقت-جزاء صبرها الدائم-ببكر ولد.. فرحت فرحا شديدا بما رُزقت.. تداولت العائلة قصتها.. ها هي تلد من جديد بعدما طُلقت من زوجها الأول بدعوى أنها عاقر، وكذلك يفعل الله ما يشاء..، ها هي تلد الأول والثاني والثالث وكلهم ذكران، والرابعة وضعتها أنثى.. وتلك حكمة بالغة استفاد من ثمراتها الطفل الربيب..

تزوجت المربية.. أحس الطفل حينها بانتهاء كل شيء.. صارت الدار في نظره صحراء مقفرة خاوية على عروشها، إلا من أخواته وإخوانه وزوجة أخيه وابنتها “زبيدة” التي كانت تكبره بسنة واحدة تقريبا، كانت بمثابة أخت له كذلك وإن كان عمًّا لها، لم تكن تفارقه أينما حلّ وارتحل، لقد عاشا معا تلك الطفولة البريئة بأفراحها وأحزانها..

كانت زبيدة طفلة شقراء اللون ذات شعر أصفر، نحيفة الجسم، تحب أكل لباب الخبز حبا جما، لكن سرعان ما تغير كل شيء، كل شيء تغير.. بفعل زواج مربيته، هذا الزواج الذي جعل الأسرة تُبعده عنها، لقد أُرسل إلى خارج الديار، غادر من بيته الأصلي قسرا.. إلى أين..؟ إلى ناحية في أقصى الجنوب الشرقي..

كان غريبا في بيت صهر أخيه ووالد مربيته في الآن نفسه، غربة عاشها وهو في سن الخامسة وربما أقل من ذلك، حينها لبس لباس الكبار، وسار على نهجهم، يستيقظ لصلاة الفجر مرغما، هذه الفريضة التي كان يظن-ولمدة طويلة-أنها تشمل خمس ركعات فرضا وسنة، بقي على ذلك الحال.. كل يوم ينهض من نومه يصلي، ويأخذ كسرة خبز محشوة بقطعة لحم ملفوف بشحم أبيض جامد، بدعوى أنه لم يتناول وجبة العشاء ليلا.. وذلك كان هو الغالب الأعم.. اللهم إذا حل ضيف وألح على جلوسه بجانبه إلى غاية تقديم وجبة العشاء، لقد دأبت الأسرة على أن تترك له نصيبا من اللحم، وكان يظنه جزاء إحسان ومكافأة لما يسديه من خدمات الليل والنهار، لكن سرعان ما يتلقى من رب الأسرة مجموعة من الأوامر الخاصة ببرنامج عمل اليوم الموالي..

يوم جديد يبدأ عنده قبل طلوع الشمس ويستمر إلى غروبها أو يزيد.. وبين الظلامين أشغال عديدة ومختلفة كان يقضيها تارة بمفرده، وتارة رفقة فتاة تدعى “بشرى” كانت نحيفة الجسم-هي الأخرى-تميل بشرتها إلى السمرة، لكن رغم ذلك كانت جميلة حسب معايير الجمال عنده في ذلك الزمن الذي ولى..

كانا يخرجان معا إلى الغابة لجمع “البلح” أو “تمر النخيل” المتساقط على الأرض بفعل الرياح التي اعتاد الناس في موسم التمور؛ وقد اعتادوا عليه في مواسم أخرى، وتلك خصوصية المنطقة، حر وقر وأشياء أخر.. في ذلك الوقت كانت تكتظ الغابة بالأطفال والشباب ذكورا وإناثا، ومن الرجال والنساء أيضا وتلك عادة اندثرت اليوم بفعل فاعل..؛

الكل كان يتسابق من أجل ملء قفته السعفية ولو على حساب الضعفاء من منافسيه، ففي أحد الأيام تعرض الطفل وهو رفقة بشرى التي كانت تلازمه دائما، تعرضا إلى سطو من قبل ولد طويل القامة مفتول العضلات، حيث أخذ كل ما جمعاه من بلح بالقوة والعنف.. كان طلبهما السلامة واتقاء شره.. وفي الشر خيار وبعضه أهون من بعض..

لم تنته القصة هنا، فعودتهما إلى البيت بخفي حنين تعني العقوبة، لهذا كانا يضطران-أحيانا-لاتخاذ حيلة تعلماها من كبار فلاسفة الحيل.. حيلة كان الكل يجدها وسيلة يحقق بها غايته عندما لا يجد بلحا ساقطا أو عندما تخونه قدامه في الجري مع أقرانه، إنها عملية نقر “عراجين” البلح أو التمر المتواجدة في جنبات النخيل القريبة من الأرض، نقر كان يفي بالغرض، بل كان يجنب سخط الآمرين..

وعند عودته مباشرة يتناول وجبة الفطور، ثم يعود مرة أخرى إلى الغابة رفقة بشرى دائما، لكن هذه المرة قصد جلب الحطب، أو قطش الحشائش؛ خاصة ذلك النبات الذي كان يدعى عند البعض في تلك المنطقة بالذات “بالتسيمة” كان نباتا ذا لون أخضر داكن تشوبه رمال كثيفة، تجعله مملحا تماما كقديد العيد الكبير.. كان لزاما عليهما غسله في مضخة الماء المالح، أو في المياه الراكدة القابعة في حفر الوادي..

كان مجبرا على غسل النبتة قبل أخذها إلى البيت لتتناولها البهائم، نبتة كانت تنظر إليها البهائم بعين الرضى مرغمة، فصارت وجبتها المفضلة بعد حين.. في غياب نبات آخر انعدم بفعل الجفاف وندرة الماء أو بسبب ملوحته الشديدة، وكان جلب الماء من المهام التي تنضاف إلى برنامجه اليومي العامر.. ماء مالح أُجاج يجلبه من البئر اللصيق بالمسجد العتيق، أو من وادي زيز الذي يمر مجراه بجاب البلدة، واد لا يأملُ ماؤه إلا بهطول غيث منهمل..، وقد يجلبه من بعض البرك التي كانت بمثابة خزان لماء الغدير، وماء عذب يُعتقد أنه صالح للشرب كان يجلبه من “سَقَّاية” البلدة التي لا خيار للفقير والغني سواها، إذ لا وجود لربط عام بشبكة الماء آنذاك.. لم يكن هناك فرقُ مذاقٍ بين الماء الأول والماء الثاني.. كان الفرق فقط في طريقة الحصول عليهما وطريقة الأداء..

سقَّاية عبارة بناية مربعة الشكل، مزينة بزليج تقليدي باهت لم يستطع مقاومة حرارة الشمس الحارقة.. بناية متواجدة أمام باب القصر تحت شجرة “الدالية” بجانب الطريق المفضي إلى المدرسة الابتدائية هناك.. سقّاية يخضع ماؤها لرقابة رجل طاعن في السن، وقد ينوب عنه أولاده المتسلطون أحيانا..، لكن يبقى الأب هو المسؤول الأول، يتقاضى أجرا من الزبناء حسب مقدار لترات سقيهم..، كانت مسؤوليته متجلية في توزيع الماء باللتر لا بغيره.. وقد يستغني عنه بعض أهل البلد إذا ما كان بيته مزودا ب “المطفيَّة” ذلك الخزان الأرضي الذي كان يخصص لتخزين ماء الغدير الذي قد يستعمل في الغسل أو الشرب إذا ما تمت تصفيته وتعقيمه..

وتتوالى الأشغال.. رعي الغنم في الفيافي بلا مؤنس ولا رفيق.. قيادة حمار الحرث، المشارك في الحصاد ودرس السنابل ونقل التبن، جني التمور، عقد جريد النخل في حزم، وغيرها من أمور الرجال كثير..

أخيرا حان وقت القيلولة.. كل من في الدار قد قال إلا هو، وبشرى رفيقة دربه في الفرح والحزن آنذاك، ها هو حينا بمفرده يجول ويصول في الزقاق المظلم متقمصا دور الفارس يحمل سيفا خشبيا ويركب خيله الخرافي في انتظار هجوم العدو المفترض، وقد يكون حقيقيا من أبناء الجيران..، خيله عبارة عن عصى طويلة يقضي بها ذلك المأرب ومآرب أخرى.. وها هو حينا آخر يؤدي بمعية رفيقته دور العروسين.. وتستمر دقائق الفرحة والسرور، بل وتبادل عواطف الحب البريئة إلى حين رفع آذان صلاة العصر لتبدأ قصة الغابة من جديد ويشرع في تنفيذ الأعمال الشاقة.. إلى المغيب، ليعود بعدها منهك القوى لا ترى عينة إلا فراشه الذي قلما يحول من زاوية الغرفة المظلمة التي خصص لها ركن فيها.. استلقى على ظهره، وكانت ملابس العمل نفسها ملابس النوم، لم يكن يكترث لذلك، فقد كانت ملابسه الجديدة مخبأة بعناية للعيد.. أو مباغتة ضيف.. نام أخيرا في انتظار نداء يوم جديد ربما سيكون مليئا بالأحداث..

إبراهيم الطاهري-بني ملال

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

2 comments on “إبراهيم الطاهري يكتب: المربيـــة والربيب..

  1. Hamza Aziz يونيو 7, 2020

    سلمت اناملك اخي ابراهيم
    وفقك الله لما يحبه ويرضاه
    واطال الله في عمر مربيتك او بالاحرى “امك”
    ❤❤

  2. من أروع ما قرأت أستاذي الفاضل

: / :