إبراهيم الطاهري  يكتب: الخَلاصُ الأوَّل.. وَرَقةٌ وقَلَم

26 يونيو 2020

 .. كان يمكث في أقصى جنوب الشرق أزيد من شهرين في السنة، ليس سياحة أو استجماما، ولكن كان يفعل ما لا يفعله الكبار.. إلى أن جاء قرار العودة النهائي، وهو قرار لم يشرِّعه هو.. لم يكن ذا رأي أو مشورة.. والحجة قولهم: “أنت صغير فعندما تكون في حضرة الكبار التزم الصمت واكتفي بالسمع..” ولا توجد حينها سلطة تعلو سلطتهم…

 انصاع للقرار الذي أُلزم به، وقد كان بردا وسلاما على نفسه.. قرار صدر لأن سنَّه أصبح يوافق سن أقرانه الذين سيلتحقون بالمدرسة..، عاد إلى مسقط رأسه بعد غياب طويل.. عاد ليشم رائحة تراب البيت الذي ولد فيه.. عاد وهو يحمل معه ذكريات وتجارب كثيرة.. عاد كبيرا في عقله لا في جسمه..

في أواخر فصل الصيف أذيع في البلدة-وفي عموم البلدان المجاورة-خبر تسجيل الأبناء الجدد في طور التعليم المدرسي الابتدائي من قِبَل أولياء أمورهم الراغبين في ذلك.. وكثير منهم قدر أعرض عن جانبه، وكثير لم تكن له رغبة لكنه أُرغم.. وكذلك حال عدد من الأبناء.. كانت عوامل رفضهم عديدة؛ فقر، وخوف، وجهل، وأمور كثيرة..

بعد أيام قليلة، وذات صباح استيقظ الطفل من نومه مع إشراقة جديدة ربما كان يأمل أن تكون مختلفة ولو بعض الشيء.. هيأ نفسه بمساعدة زوجة أخيه “لطيفة” التي ألبسته لباسا يليق بالدخول المدرسي في نظره، وكانت هي على دراية بما يليق وبما لا يليق؛ لأنها كانت أُمًّا، وقد خاضت هذه التجربة مع ابنتها “زبيدة” قبل عام، وإن كان الأمر مختلف، فليس الذكر كالأنثى..

 كانت بدلة صيفية زرقاء اللون.. عبارة عن قميص رياضي لا يحمل رقما، ولا يُنتسب لأي فريق كروي من فرق ذلك الزمن، إلا أنه قميص رياضي يشبه باقي الألبسة التي كانت ترسل من الشرق من قبل أخيه “عبد الغاني” أو التي كان يأتيه بها-وبغيرها-في كل عام زمن العيد الكبير، وكانت تلك هي المناسبة الوحيدة التي يأتي فيها إلى البلدة بعدما غادرها فَارًّا ضاربا سخط أخيه “عزيز” عرض الحائط.. يومها تحين فرصة عدم وجوده في البلدة، فترك ما كُلف به من شغل، ثم غادر البلدة-دون علم أحد-في اتجاه المجهول، تارة هنا وتارة هناك، إلى أن استقر به الحال في جهة الشرق..

 لبس الطفل القميص، وكان فرحًا مسرورًا.. لقد كان يوم عيد بالنسبة إليه، إذ لم تكن العادة ارتداء لباس جديد إلا في عرس أو عيد.. تهيأ المظهر الخارجي أخيرا، ثم أعطته زوجة الأخ ورقة بيضاء مطوية حتى صارت مربعة الشكل، وعليها قلم أزرق شفاف يشدها أطرافها شدا.. وتلك عادة قديمة توارثها التلاميذ فيما بينهم كابرا عن كابر، عادة توارثوها في كل بقاع الوطن ذكرانا وإناثا، أغنياء وفقراء، عادة عمت ربوع الوطن مدنه وقراه..

لم تكتف زوجة الأخ بما فعلت، بل أنزلت عليه وابلا من الوصايا.. افعل كذا..، إياك أن تفعل كذا..، اجتنب اللعب مع الكبار..، إياك والشغب.. كن عاقلا.. لازم صديقك “علي“-وكان حاضرا يسمع ما يُقال-إياك والابتعاد عنه.. وكان الطفل يردُّ على الأوامر والنواهي-وهو مطأطأ الرأس-بتمتمات لا تفصح عن جواب، اكتفى بالاستماع فقط دون تعقيب صريح..

خرج من البيت أخيرا.. في اتجاه المدرسة رفقة زميله عَلِي، وهو من الأولاد الذين أُرغموا على الذهاب إلى المدرسة، كان شغوفا بالموسيقى والعزف وقرع الطبل، وتقليد المغنين الذين ذاع صيتهم في ذلك الوقت.. كان مهووسا باللعب.. يصنع العربات والشاحنات من علب السمك ويجعل لها عجلات من سدادات القوارير البلاستيكية.. كان يتخذ من تلك العلب-أحيانا-آنية لطهي بعض المأكولات..

 اشتهر عَلِي باللعب مع أقرانه وغير أقرانه من أبناء البلدة.. ألعاب الغميضة، والبلي، والجري وراء الجِراء الصغيرة التي لطالما اعتبرها من هواياته المفضلة.. وقد استهواها كثير من الأطفال أيضا.. إلا الطفل اليتيم، فقد عرف بالعزلة وعدم مخالطة الناس.. خصوصا وأنه لم يألف ما هو فيه بعد، لم يألف اللعب، إنه ألف عمل الكبار..

 لم يكن اجتماعيا بطبعه على عادة أقرانه، لقد كان يمكث أمام بيتهم لا يتجاوز “درب الشيخ” وقلما يخرج إلى ما وراء باب القصر.. إلا إذا أُمر بذلك.. كان يفعل ذلك تلبية لرغبة بعض أفراد أسرته، لا أدري لماذا كان هكذا، لكن هكذا كانت طفولته، انعزال وخوف وخجل، وأشياء كثيرة..

 يُحكى أنه سمع مرة من الطفل “عبد الله” الذي كان يرافق والده إلى المسجد يوم الجمعة، سمعه يقول: إن الفقيه يصعد فوق المنبر ليخطب في الناس فلا أحد ينطق بكلمة وكأنهم نيام.. ظلت صورة المنبر تلك راسخة في ذهنه، كان يتخيله على شكل جفنة كبيرة لا كالجفان، يصعد فوقها خطيب الجمعة قصد إلقاء خطبته..

 بقي على هذا الاعتقاد إلى أن دخل المسجد يوما-وكان دخوله خلسة-عندما عاد في عطلة صيف إلى بيت والد مربيته.. لما طلب منه فقيه المسجد إحضار “اللوح الخشبي” من أحد الغرف المجاورة لبيت الله، قصد المباشرة في كتابة حفظ بعض من سور القرآن كبقية أطفال البلدة، وكانوا قلة قليلة أغلبهم ذكور.. وقف على عتبة المسجد يتأمل المكان والأشكال.. أخيرا صحح الصورة، وصار يعرف شيئا لطالما كان يجهله..

وفي طريقهما إلى المدرسة.. كانت علامات الخوف بادية على قسمات وجهه الشاحب.. اضطراب وارتفاع دقات القلب التي كانت تزداد شيئا فشيئا كلما تناهى إلى سمعه صوت التلاميذ.. تلاميذ من مختلف الأعمار والمستويات، عمت أصواتهم أرجاء ذلك الفضاء.. فهذا خائف مثله، والآخر على وجهه الفرح والسرور، والثالث لا يبالي بشيء.. كان قاسمهم المشترك الورقة البيضاء والقلم الأزرق التي جعلت من الفضاء الرحب-في نظره-لوحة سنفونية، وكان قاسمهم المشترك أيضا ذلك اللباس الجديد-أو شبه الجديد-الذي أخفى وضعهم الاجتماعي للحظة زمنية لم تدم إلا ساعة من نهار..

وصل الطفل أخيرا إلى مقر المدرسة الابتدائية.. التي بنيت وسط واحة من نخيل صنوان وغير صنوان تسقى بماء واحد، ويفضل بعضها على بعض في الأكل، كانت ذات طلع نضيد تؤتي أكلها كل حين.. وكانت المدرسة محاطة بسور قصير مبني بالطين والطوب سهل النقب، مدرسة لا يمنعها عن المارة باب أو سياج.. تقع بجانب “واد غريس” وتفصلها عن مقبرة قديمة مسافة قصيرة جدا.. وقد قيل إنها مقبرة من مقابر يهود المَلَّاح.. كانت المدرسة بالنسبة للطفل-ولباقي التلاميذ الجدد منهم خاصة-تمثل عالما آخر غير العالم الذي كان يعيش فيه..

 مدرسة قديمة تتكون من ثلاث حُجرات؛ كل واحدة تشمل عدد من الطاولات والنوافذ.. جدرانها مزينة بصور، وملصقات عليها حروف وجمل ورسومات باهتة لحيوانات مختلفة، إلا حُجرة واحدة لم يكن بها صور أو ملصقات كانت شبيهة بثكنة عسكرية..  كبيرة وواسعة وذات جدران سميكة، بها نوافذ خشبية كبيرة دون سياج، على عكس الأخرى التي كانت نوافذها مسيجة من حديد..

وعلى الحائط-في هذه الحجرة-علقت سبورة لا تترك لك الفرصة لتتبين هل هي سوداء أم خضراء، وربما ما كتب على ظهرها من حروف وجمل كان السبب فيما آلت إليه.. حجرة قيل إنها هي المدرسة في الأصل.. تعود لزمن الاستعمار، بل قيل إنها أول مدرسة بنيت في الجماعة القروية، فقد عمرت أزيد من خمسين سنة خلت.. ودرس فيها عشرات التلاميذ..

 في المدرسة مطعم مكون من عدة غرف؛ واحدة خصصت لتخزين المؤن، وأخرى على شكل مطبخ خصص لإعداد الطعام الذي كان يقدم للتلاميذ في كل يوم، طعام يقدم زمن استراحة العاشرة صباحا التي كانت تدوم وتدوم..، طعام كانت “السيدة حَبَّو” هي من تتكلف بإعداده في بيتها باتفاق عقد بينها وبين إدارة المدرسة المركزية..

امرأة بين الأربعين والخمسين من عمرها سمراء اللون مكتنزة الجسم لا تتكلم إلا نادرا، وإذا فعلت يكون كلامها مجرد زجر، أو سب وشتم، وقد يكون إشارات يدوية.. كما يمكن أن يكون شكاية في حال لاحظت عدم انضباط التلاميذ، وقد يكون وشاية في حال لم يرقها فلان أو فلان.. تقرير شفوي دون مقدمات أو رسميات يرفع على وجه السرعة إلى الأساتذة المداومين في الحصة الصباحة، وكانوا أعلى هيئة في المدرسة.. إذ لا سلطة للآباء والأولياء إلا ما ندر.. فقليل ما تجد ولي أمر تلميذ يزور المدرسة ليسأل عن ابنه أو بنته.. وإذا زارها يأتي حاملا دعوة عرس أو عقيقة يدعو إليها أساتذة المدرسة دون استثناء..

كان الطعام الذي كانت تُعده السيدة حَبُّو للتلاميذ لذيذا حسب معايير ذوقهم.. كان طعاما متنوعا؛ قطعة خبز مثلثة الشكل محشوة بالحوت المعلب، أو صحن فاصوليا وقطعة خبز، وقد يكون صحن عدس.. وكان الخبز بطلا لا يموت.. يتجمع التلاميذ من أجله في بهو المطعم تؤكل الوجبات-التي قلما تكون ساخنة خصوصا في الشتاء-بشكل مرعب..

في لمح البصر تصير الصحون خاوية على عروشها.. كان بعض التلاميذ يُتاجر فيما ناله من حصة طعام مقابل درهم أو أقل بكثير.. ومنهم من كان يحتال على غيره ممن هم أقل منه سنا.. ينزع منهم الطعام نزعا تحت تهديد مؤجل، لكنه آت لا محالة إذا لم تُلبّ رغبة المحتال..

في المدرسة مرفق صحي واحد بدون ماء، لكنه جُعل هناك..، ومع المدة صار مكان لحرق الأوراق غير المرغوب فيها.. وفيها أيضا ساحة واسعة-بحسب اتساع ذاكرة الأطفال-تقبع بها ثلاث شجرات باسقات لم تثمر يوما سوى ظل يستفيد منه الجميع زمن الحرور.. ظلت هناك في الزاوية المحادية للوادي شاهدة على كل الأجيال التي تعاقبت على المدرسة..

بدأ الطفل يألف المكان، ويألف التلاميذ شيئا فشيئا.. وسرعان ما اندثر الخوف وزال أثره على نفسيته، ها هو يدخل رفقة زملائه إلى الفصل الدراسي.. الكل اختار لنفسه مكانا وصديقا يجلس بجانبه، وكان المكان المختار في بداية العام لا يتغير أبدا.. وكذلك كان الصديق إلا إذا وقع خصام قد تجهل أسبابه في كثير من المرات..

في لحظة من اللحظات خيم الصمت على حجرة الدرس، وقف التلاميذ جميعا وقفة الجنود أثناء تأدية تحية ما.. لم تعد تسمع لهم همسا وكأن على رؤوسهم الطير.. أصيب الطفل بالذهول.. قال في نفسه: كل الدروس تلقيتها من زوجة أخي إلا هذا الدرس.. و”علي” الذي يدعي الفهم في كل شيء لم ينبهني إليه..

 التفت الطفل يمينا فإذ بجماعة من الرجال قد اجتمعوا في ساحة المدرسة، ظل يرقب حركاتهم وتصرفاتهم.. وكان أغلبهم شباب بين الثلاثين والأربعين.. أخيرا افترقوا.. ها هو واحد منهم يخطو خطوه صوب القاعة التي هُم فيها.. وصل أخيرا.. شاب ثلاثيني أبيض الوجه، ربع القامة.. وقف عند باب حجرة الدرس لبرهة من الزمن يتأمل في الوجوه.. طرق الباب ثم دخل.. اتجه صوب المكتب، لم يلتفت يمنة ولا يسرة.. كان يحمل محفظة سوداء اللون ضخمة الحجم بها خرصة نحاسية باهتة، لا أحد كان يستطيع أن يتخيل ما بداخلها.. كان يرتدي سروالا طويلا من الجينز ذو لون بني ومعطفا من نفس يشبه جلد أفعى، كان مزينا بأنشوطات يصعب انحلالها تحادي أولها رقبته، وآخرها يقرب الركبة..

جلس على الكرسي، نظر نظرة في السقف الخشبي، ثم صار ينظر إلى الجميع دقائق معدودة.. قال مبديا شيئا من الظرافة: أنا أستاذكم في هذه السنة، اسمي “سي الوافي” سأدرسكم مواد اللغة العربية والفرنسية والرياضيات والنشاط العلمي والتفتح الفني، و.. و.. قال هذا كله وهو يبتسم، لكن سرعان ما تغيرت نبرة صوته، وصارت الأوامر تنهمل على عموم الحاضرين في تلك الحصة كالمطر، لا تفعلوا كذا وكذا.. وافعلوا كذا وكذا.. كانت أوامره شبيهة إلى حد ما بما أَمَرت به زوجة الأخ إلا أنها أكثر صرامة..

في اللحظة التي كانت الأوامر والنواهي تنهمل؛ سافر الطفل بخياله إلى ما وراء حجرة الدرس التي هو فيها، لقد كان يتصور أن الأستاذ عبارة عن حصن منيع لا يعلوه أحد، لا يأكل ولا يشرب ولا يمشي في الأسواق، يفعل فقط الصواب ولا يخطئ كباقي البشر.. لكن سرعان ما سمع صوتا يناديه، كان صوت الأستاذ الذي أعاده إلى العالم الحقيقي الذي هم فيه.. هيه، أنت.. ألا تسمع ما أقول؟، أجاب دون تردد بلى أسمع يا أستاذ..

 وبعد انتهاء الأستاذ من خطبته البتراء التي لا مدح فيها ولا ثناء؛ شرع التلاميذ واحدا تلو الآخر في الذهاب ناحية المكتب الخشبي القديم، وبيدهم الورقة البيضاء والقلم الأزرق.. كان كل تلميذ يصل إلى جنبات المكتب يقف أمام الأستاذ وهو يرتجف ارتجافا شديدا، كان الأستاذ ينظر في وجهه ولا يبالي لحالته النفسية.. يخاطبه قائلا: ما اسمك؟

سي الوافي لا يسأل عن شيء سوى الاسم.. يسمعه ويدونه في دفتره الأخضر ذو الحجم الكبير.. ثم بعد ذلك يكتبه أعلى الورقة البيضاء الخاصة بكل تلميذ، وبعدها يشرع في كتابة اللوازم الضرورية الخاصة بالطور الابتدائي الأول من المستوى الدراسي الذي كان يعرف باسم “التحضيري” لوازم كانت عبارة عن مقررات دراسية ودفاتر مختلفة الحجم وأدوات متنوعة، وأغلفة بألوان مخصوصة..

بدأ الموسم الدراسي، وبدأ معه هَمُّ التعلم عند الطفل مثله مثل بعض أقرانه.. محفظة جلدية صفراء باهتة أخاطها الأخ الأكبر لابنته زبيدة في عامها الدراسي الأول-وكان يتقن ذلك-فقد أخذ الصنعة عن والده الذي خبر الحياة وعرف ما لها وما عليها.. ولم يأخذ عنه صنعة الخياطة فقط، بل الجزارة والحدادة.. وكل ما يتعلق بالأرض والفلاحة من الحرث إلى الحصاد..

محفظة ورثها الطفل عن شخص حي لم يمت، بقي عليها أثر مداد وطباشير بألوان مختلفة جعلتها كلوحة تشكيلية.. محفظة عامرة يحملها على ظهره طيلة أيام الأسبوع-إلا يوم الأحد-مرتين في اليوم على الأقل دون معين..، كان التوزيع الزمني عنده مقسم إلى حصتين في اليوم؛ حصة صباحية، وأخرى مسائية، لكن سرعان ما بدأ العمل بالتوقيت المستمر.. حصص صباحية تبدأ من الثامنة وقد تنتهي عند الواحدة-إلا الربع-بعد الزوال بحسب ما اقتضته “السيدة حبُّو” صاحبة المطعم، والأساتذة على السواء..، أما الحصص المسائية فغالبا ما تبدأ من الواحدة والنصف وتنتهي عند الخامسة.. وفي منتصف كل حصة؛ حصة أخرى للاستراحة، وتلك أحسن الحصص؛ فقد كانت تنسي التلاميذ ألم الظهر، وألم عصى الأستاذ أيام برد فصل الشتاء القارس..

 فترة الاستراحة قد تدوم ساعة أو يزيد.. بلا حسيب أو رقيب، كان يستفيد منها الجميع بما فيهم الأساتذة.. ها هو الأستاذ “أحمد” يكلف التلميذ “يوسف” وكان حينها في الخامسة ابتدائي وإن كان قصير القامة.. لقد كلفه بإحضار الشاي من بيتهم القريب من المدرسة.. وليس الشاي فقط بل حلويات وخبز وزبدة وبيض وتلك أمور مضمرة لا يصرح بها الأستاذ، إلا أن الأهل يفكون شفراتها بمجرد وصول النبأ..

تلك عادة توارثها كل الأستاذة الذين يلتحقون بالبلدة، فالقديم منهم يوصي الجديد دون كلل أو ملل، وتلك عادة ألفتها الأسر-أيضا-دون رفض منهم، بدعوى أن المعلم هو من يعلم أبناءهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور.. وكذلك هم.. وكذلك كانوا يفعلون..

كان الطفل يرغب في التعلم أيما رغبة، فقد كان يجتهد في البيت في تعلم رسم حروف العربية والفرنسية، ورسم الأشكال الهندسية، كما كان أيضا يحاول حفظ قصار سور القرآن الكريم وقد كان يحفظ بعضها فيما سلف..، وحفظ جدول الحساب، وغيره، مرة بمفرده ومرة بمعية “زبيدة” بنت أخيه، ومرة بمعية أخيه “عزيز” فقد كان متعلما يعرف القراءة والكتابة والحساب لأنه درس هو الآخر في نفس المدرسة ثلاثة أعوام كاملة، إلا أنه انقطع عن الدراسة بسبب شغبه وكثرة غيابه وحبه للعب، مفضلا عمل الفلاحة مع والده على أن يستمر في التعلم..

 أصر الطفل على أن يكون مجتهدا، وألا يسير على درب أخيه..، لكن مع الأسف جرت الرياح بما لم تشتهيه سفينته، لقد كان الأستاذ سي الوفي كثير التغيب لا يحضر إلا أياما قلائل، بل قل سويعات معدودة في الأسبوع، يأمر التلاميذ فيها بكتابة صفحات من الكتاب المدرسي، وإنجاز تمارين من مختلف المواد.. لا مراقبة، لا فروض ولا هم يحزنون.. وكيف يكون الحزن وأكبر هدية يمكن تقديمها لطفل هي عبارات “المعلم لن يأتي اليوم”، أو “غدا يوم عطلة”، أو “اليوم يوم نظافة” أو شيء من هذا القبيل..

كانت مدرسة “الزاوية” عبارة عن فرعية تابعة للمدرسة المركزية “أم البنين” لا مسافة طويلة بينهما، نصف كلومتر تقريبا.. لكن مع ذلك قلما يزورها المدير، وإذا كان ذلك أعد له الأساتذة العدة، وما استطاعوا من شاي وحلويات وغيرهما..

كان رجلا مجهول الاسم عند جميع التلاميذ، طويلا يرتدي دائما جلبابا أبيض، يأتي راكبا دراجته النارية الزرقاء ذات الصوت المزعج، وقد يأتي بدونها أحيانا.. يحتسي معهم كؤوس الشاي ويسألهم عن أحوالهم دون الالتفات إلى من تغيب منهم، وربما كان على علم بذلك..، لا إجراءات قانونية كانت تتخذ آنذاك في حق المتغيبين من المعلمين خاصة في العالم القروي المنسي.. هو الضمير الذي كان يحكم البعض منهم..

مرت السنة بحلوها ومرها، في جو من الرهبة تارة، والرغبة تارة، والمرح تارات كثيرة، كانت النتائج على بياض، أقصد بياض قطعة من ورق كُتبَ أعلاها اسم التلميذ وكنيته.. وفي وسط الورقة البيضاء كتبت كلمة “ناجح” لجميع تلاميذ الفصل دون استثناء، كتبت بخط بارز ولون أزرق في غياب تام للورقة ذات اللون الأصفر الفاقع، المعهودة بخطوطها السوداء البارزة، وخاناتها المختلفة الطول والعرض، المسجل عليها اسم التلميذ، ومعدل كل وحدة على حدة بحسب المواد والمكونات.. والنتيجة النهائية، والكلمات المتنوعة التي كانت تقدر جهد التلميذ وتعطيه حق قدره، ينتقل أو يكرر، لوحة شرف، عبارات التنويه أو الحث أو التوبيخ البارزة بخط الأستاذ.. كلها هذا لم تحمله الورقة البيضاء، لكنها حملت على ظهرها كلمة ناجح وفقط..

كان الطفل حينها من الذين حالفهم الحظ في النجاح، والانتقال إلى المستوى الثاني، هذا المستوى الذي سينفصل في نهايته عن صديقة “علي” الذي كرر السنة، وكان ذلك مبرر انقطاعه الكلي عن المدرسة إلى الأبد.. انفتح الطفل على أصدقاء جدد، وصار ينتقل برفقتهم من مستوى لآخر في جو مفعم بالحماس والاجتهاد والرغبة في النجاح دائما.. إلى أن وصل المستوى الخامس ابتدائي..

 لقد اتصف بالكتمان والحشمة.. صفات جعلت الآخرين من التلاميذ والأساتذة يكنون له الحب والود، وكان من بينهم الأستاذ “مصطفى” وإن كان لم يدرسه قط.. فقط أكنَّ له الود انطلاقا مما يسمعه عنه من قبل زملائه الأساتذة، الذين كانوا يصفونه بالتلميذ الكتوم صاحب الفراسة..

               إبراهيم الطاهري-بني ملال

اترك تعليقا

لن يتم اظهار بريدك الالكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها *

: / :