( نحو منظور معاصر )
- محاولة لربط القديم بالحديث
من الضروري، في ضوء الدراسات الحديثة، والتي أفادت التحليل بعدة جديدة وآليات حديثة تقرب الفهم أو تخلق فهما جديدا للنص الأدبي، أن ننظر إلى التراث من زاوية نظر جديدة وغير مستهلكة، بغية إسناد أنساق حديثة إلى نصوص وخطابات قديمة من أجل التقريض، الذي يزاوج بين زمنين، الماضي / الحاضر، لتشكيل نوع من الادراك لقيمة هذه النصوص ومكانتها وإسهاماتها ودورها في تحريك الفكر والعقل آنذاك، وحتى لا نسقط في إعادة رواية أحداث التاريخ وصفا ذاتيا، ارتأينا أن ننظر لهذا النص الأدبي ” رسالة التوابع والزوابع ” من إتجاه تحليلي معاصر، نركز فيه على الأدوات التي قدمتها السيميوطيقا في فهم الحياة الاجتماعية والادبية في نص التوابع والزوابع، ثم نركز فيه أيضا على الأدوات التي قدمها حقل السرديات لمعرفة أهم الخصائص التي كان النثر الأندلسي يتميز بها.
- نظرة ابن بسام الشنتريني في شخصية ابن شهيد
لا يمكن الحديث عن كتاب التوابع والزوابع دون ذكر فضل الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة في إظهاره رفقة بعض الموروث الذي خلفه ابن شهيد، تحدث عنه الشنتريني في القسم الأول من كتابه ضمن شعراء قرطبة، وخصص له 131 صفحة، وهذا يبين الاهتمام الذي أبداه ابن بسام تجاه الموروث الأدبي لأبي عامر بن شهيد، في حين أنه لم يتحدث إلا في صفحات قليلة عن مجموعة من الأدباء الذين عاصروه.
ولا عجب في أنه بدأ عنه الحديث بتمهيد قوي، ولغه جميلة، ليبين من خلالها مكانة ابن شهيد في الوسط الأندلسي، وقد قال في بداية حديثه : ” كان أبو عامر شيخ الحضرة العظمى وفتاها ” ثم قال في نفس الصفحة ” إن هزل فسجع الحمام ، وإن جد فزئير الأسد الضرغام ” وقال ايضا ” نظم كما اتسق الدر على النحور، ونثر كما خلط المسك بالكافور ” فمن خلال هذه الإشارات تظهر مكانة ابن شهيد عند ابن بسام، ولذلك خصه بذكر مطول غير ممل.
إن ابن بسام عرض لكثير من أثر ابن شهيد الوفير وجعل حديثه حول هذه الأعمال عبارة عن أقسام أو محاور ولكل قسم وضع له عنوانا، فكان كلما أراد الحديث عن جنس أدبي سماه وبدأها بقوله ” جملة من كلام في أوصاف شتى ” ثم تحدث في هذا المحور عن بعض الوقائع والمقاطع شعرا ونثرا تحمل افكارا تتسم بالجدية، ولا تقتصر فقط على الهزل أوالسخرية، ثم أتبعه بقسم آخر سماه ” فصول قصار اقتضبتها من طويل كلامه ” عرض فيها مجموعة من المواضيع الاجتماعية واللغوية والنقدية مثل حديثه عن إصابة البيان وعن النحو والتعليم وعن الشعر … ثم في المحور الثالث الذي عنونه ب ” فصول في رسالة سماها بالتوابع والزوابع وإن صدرت عنه مصدر هزل فتشمل على بدائع روائع ” وهذه الإشارة أيضا من ابن بسام تؤكد على أنه يميز بين شخصية أبي عامر الأندلسية الجادة وبين شخصيته الساخرة الهزلية التي جعلت من الضحك والدعابة والسخرية مواد البناء لتشييد صرح نثري يرمي إلى مغزى ما، وليست اعتباطية من ابن بسام أن يبدأ حديثه بالاشارة إلى شخصية ابن شهيد الجادة، لكي لا يسقط القارئ في متاهة الاعتقاد الخاطئ، والتسليم بأن هذه الرسالة تعكس الفكر الاندلسي كوجه من أوجه الأيمان بالخرافة.
إن ابن بسام كان شديد الحرص على هذا التمييز في شخصية ابن شهيد، إذ لم يعتبر هذا الشكل السخري شكلا مناقضا للعرف، وإنما اعتبره من الأشكال الإبداعية الرائعة كما صرح بقوله ومثال ذلك في العصر الحديث ما حصل مع فرانسوا رابلي الذي كان يعتمد في كتبه على خاصيتي الضحك والدعابة، وكان يمرر عبرهما مجموعة من الأفكر، فقابلته الكنيسة بحرق كل كتبه بحكم الانتشار الواسع الذي حققه، وأيضا بحكم أن الضحك والدعابة ليستا خاصيتان الهيتان، ولذلك شددوا على ضرورة الالتزام بالجدية المطلقة، إن السخرية نوع من التمرد على المقدس، وبالتالي يمكن أن يكون ابن شهيد استعمل هذه الخاصية بغرض توصيل المعنى بشكل سليس وخفي وقوي أيضا، يحاول من خلاله تغيير افكار سائدة.
- العنوان : التركيب، الدلالة والإثارة
إن النص الأدبي والابداعي عمارة، وباب هذه العمارة هو العنوان، ويعتبر جرار جنت عتبة العنوان بمثابة النص الموازي، أي أن العنوان لوحده عبارة عن نص آخر يوازي الموضوع، فعملية إدراكه تكتسي أهمية كبيرة جدا في ضوء الدراسات المعاصرة، حيث أن إدراك العنوان بشمولية يساهم لا محالة في تحديد القصد، ونحن نستعين في تحليلنا لهذه العنونة بالنموذج الذي قدمه الكاتب ليوهوك في كتابه علامة العنوانla marque du titre حيث نص على أن دراسة العنوان ينبغي مقاربتها من جهات ثلاث، التركيب، الدلالة والإثارة، وإذا طبقنا هذا النموذج على التوابع والزوابع سنجده كالاتي :
أولا: على مستوى التركيب, التوابع خبر لمبتدإ محذوف تقديره هذه، الواو حرف عطف والزوابع اسم معطوف، ويمكن أن نلاحظ من خلال هذا، القفز على المبتدإ وكأنه أمر مستعجل فحذف المبتدإ قد يكون له معنى إستمالة اذهان المتلقي بدون ارهاصات أولية.
ثانيا : على مستوى الدلالة، فيما جاء في كتاب الذخيرة أن ابن شهيد قال وهو يخاطب أبا بكر بن حزم،” أما إن به شيطانا يهديه وشيصبان يأتيه، وأقسم أن له تابعة تنجده وزابعة تؤيده “، وهنا يقصد بالتابعة الشيطان الذي يحب الإنسان ويتبعه حيث ذهب، في ما الزابعة من الزوبعة ولكن يعنى بها هنا رئيس الشياطين أو من له سلطة في عالمهم، وبهذا تتضح دلالة العنوان الذي يحمل إشارة على أن هذا المدروس وهذا المنجز مرتبط بالعالم المخفي أو الما وراء أو كما سماه جرار جنيت بما وراء النصيةtranstextualité
ثالثا : على مستوى الإثارة ،من البديهي أن يكون عنوانا مثيرا ما دمنا تعرفنا على المستويين السابقين ( التركيب والدلالة ) وما يحملان من معنى، فإن هذا في حد ذاته يثير القارئ ويستفزه من أجل القراءة واكتشاف هذا المخفي وإن كان هزلا، إلا أنها قدرة كبيرة جدا على توظيف التخييل وتحمل أكثر من مغزى ودلالة .
- إبهام المعنى وإيهام التفكير
إن المطلع على رسالة التوابع والزوابع، يجد نفسه محاطا ببعض الكلمات الغير مألوفة، وتستدعي حقيقة الشرح والتفسير، أو على الأقل ما تسمح به حدود التأويل بتطبيقه.
ورغم وجود مجموعة من الملفوظ الغريب، فإن القارئ لا يستشعر هذه الغرابة اللغوية في مجملها، ذلك لأن ابن شهيد استعملها وسط قالب كله غير مألوف، وبالتالي فإن المتلقي يدخل الماوراء من الوهلة الاولى، فيجد نفسه بين لغة تقدم له في قالب سردي ماتع من جهة، وبين أفكار تقدم له في قالب سخري غير مألوف من جهة أخرى، فإذا تحدثنا عن غرابة التوابع والزوابع سننتحدث عنها من جهة السياق ككل وليس من جهة اللغة فقط
إن أول غرابة يصطدم بها القارئ هي المحادثة التي أجراها ابن شهيد مع تابعه من الشياطين، وهذا يبين أن الغرابة أول ما انطلقت كانت نابعة من ذات الكاتب، وكأنها إجابة عن سؤال نابع من وجدانه الشخصي، ما الذي يمكن أن يجعل من النصوص القديمة نصوصا إبداعية فريدة جدا؟ ولماذا ما تزال محافظة على تلك القدسية التي تتمتع بها ؟ ولماذا نصوص المشرق بالذات ؟
لقد جعل نفسه أيضا موضع السؤال، فجعل لنفسه تابعا وسماه ببزهير بن نمير، وهذا الإسم يحيل إلى قبيلة عربية ، وهي قبيلة بني نمير، وهم أبناء نمير بن عامر، وتعتبر القبيلة من جمرات العرب، أي، تلك التي لم تدخل أي تحالف، غير أننا نجد بعض التعالق في اختيار ابن شهيد هذا الإسم تحديدا، وهو تعالق على مستوى التسمية ( أبو عامر ابن شهيد / زهير بن نمير من قبيلة نمير بن عامر ) وكأن هذه الإشارة توحي بأن بن شهيد هو نفسه الأديب وهو نفسه التابعة.
وقد أشار عبد الفتاح كيليطو في كتابه الأدب والغرابة إلى أن هذه التعالقات تكثر في الأدب الكلاسيكي بما فيه الأندلسي، كوجه من أوجه التعبير عن قوة التبليغ والبلاغة ، ولهذا السبب أشار عبد الفتاح كيليطو إلى خاصيتين أساسيين في إطار دراسة النص القديم، وهما خاصيتي الابهام والايهام، الأول متعلق بإصدار المعنى داخل نسق من الالفاظ، والثاني مرتبط بتمويه التفكير، ومن بلغ إلى شيء من المعنى فيه، رسخ عنده .
- ميكانيزمات النثرعند ابن شهيد في رسالة التوابع والزوابع
يفرض الحديث عن منثور ابن شهيد التطرق إلى مجموعة من العناصر التي خلفها وامتاز بها، ولا بد أنه أعطى للمنثور الأندلسي قيمة إضافية، ودفع به إلى الخروج من قالبه البدائي إلى قالب أكثر إبداعية وتخييل، وجدد في مقوماته التي تشكل البنى النثرية عنده سواء على مستوى اللغة، الأسلوب، والوصف … فكيف كان ذلك ؟
- اللغة والاسلوب النثري في رسالة التوابع والزوابع
لقد اتخذ ابن شهيد على عاتقه التجديد في لغة عصره، وكانت أعراف من عاصروه، سواء من المشرق أو في الأندلس، تلزم باتباع منهج محدد على مستوى اختيار الالفاظ وتركيبها كمظهر من مظاهر التأنق والإبداع الشديد الرفعة، غير أن ابن شهيد خص رسالة التوابع والزوابع بلغة مختلفة اختلاف السياق أيضا، وقد يلاحظ القارئ كثرة توظيف السجع، وبه يشكل أغلب تعابيره السردية ذات الامتاع والاقناع معا.
لقد روى ابن شهيد في كتابه أنه اتصل بشيطان الجاحظ، عتبة ابن أرقم، فقال له تابع الجاحظ ” إنك لخطيب وحائك للكلام مجيد، لولا أنك مغرم بالسجع، فكلامك لا نثر ” وهذا يبين موقف الجاحظ من السجع من جهة، حيث كان يؤثر الكلام المرسل على الكلام المسجوع، ويبين مدى تأثر ابن شهيد بالكلام المسجوع من جهة أخرى، فهي بمثابة معارضة هنا بين المشرق والاندلس في ما يخص المرسول والمسجوع، ولكن الذي يهم الآن، هو اعتماد ابن شهيد على السجع بشكل كبير جداً.
وفي موضع آخر من كتابه، قرأ على الجن رسالة في وصف الحلواء، فقالوا له: ” إن لسجعك موضعا من القلب، ومكانا في النفس، وقد أعرته من طبعك، وحلاوة لفظك، ما أزال أفنه ورفع غبنه “
وإن هذا القول يبين أيضا لغة السجع عند ابن شهيد وما تحدثه في نفس المتلقي ، بل وإن القولة أضافت بعض التحديدات إلى هذا الأمر، فقالوا، وقد أعرته من طبعك، أي أن لغة التوابع والزوابع لا تكلف فيها، وإنما تتخذ من الطبع مجالا رحبا لإنشاء التعابير بلا صنعة ولا كلفة، ثم اختيار اللفظ الحلو، الذي لا يأتي إلا بمشاكلة اللفظ للمعنى، حتى يبدو المعنى واللفظ وجهان لعملة واحدة.
هذا ويسعمل ابن شهيد في رسالته العديد من الجمل الوصفية المبهرة، فهو يجعل من الوصف أيضا وسيلة لقوة تبليغية واقناعية وابداعية، ومطية الأفكار بدلالة تستوجب دقة الوصف وجماله، ومن ذلك ما ورد في رسالة التوابع والزوابع، أنه التقى مع شيطان بديع الزمان الهمذاني، زبدة الحقب، فطلب منه ابن شهيد أن يصف الماء، قائلاً ” اسمعني وصفك للماء، فقال الجني، أزرق كعين التنور، صاف كقضيب البلور، انتخب من الفترات، ويستعمل بعد البيات، فكان كلسان الشمعة في صفاء الدمعة، / فعارضه ابن شهيد ووصفه قائلاً : أنظر يا سيدي كأنه عصير صباح، أو ذوب قمر لياح، ينصب من إنائه، انصباب الكوكب الدري من سمائه، كأنه خيط من غزل فلق ، أو مخصرة ضربت من ورق، يرفع عنك فتروى، ويصدع به قلبك فتحيا “.
إن هذا القول يبين كيف ينتقي ابن شهيد الألفاظ التي يقدمها في طبق وصفي جميل جدا، وإن قوة الوصف عنده، تكمن في دقة الربط بين الالفاظ، مثل ربطه بين انصباب الماء من الكوب وانصباب الكوكب من السماء، في صورة معبرة جدآ عن أهمية وقوة الماء وضرورته، او كما ربط بينه وبين الارتواء والحياة في صورة سهلة لكنها تحمل دلالة عميقة.
ولا يمكن أن يتجاوز الباحث في رسالة التوابع والزوابع أسلوبا أخذ حيزا كبيرا من مساحة هذا الكتاب، إن السخرية شكلت آلية أساسية في البناء السردي ععندابن شهيد، وكانت كما سبق أن أشرنا، وسيلة قوية من أجل تمرير أفكار نقضاوية ومتمردة، فالادب القديم ساهم بشكل فعال في إخراج هذه الآلية إلى الوجود في ثوب أدبي، منذ فلاسفة اليونان والعرب القدماء في المشرق والمغرب، ونجد في العصر الحديث من اهتتم بها، وعبد لها الطريق لكي تصبح تيارا أدبيا واتجاها ابداعيا قائما بذاته، واصطلح على أصحابه، السخرياتيين les ironologues وبدأوا في البحث عن تعريفات دقيقة لها، وعن تقسيمات تميز فروعها من أجل الاقتراب إلى كيفية عمل هذا الأسلوب سواء على المستوى الإبداعي أو على المستوى السيكولوجي، فنجد مثلا سيغموند فرويد يعرفها بأنها لا تستوجب أي تقنية أخرى إلا التقديم بالضد، أي أننا نعرض غير القصد أو نقصد غير العرض، وكذلك يعرفها الفيلسوف سورين كيكيغارد على أنها تعبير عن ضد ما نريد أن نفعله، وهذا يعني أن السخرية دائما عبارة عن مراوغة باللغة، ولا ينبغي أن نعتقد بأن السخرية وليدة الهجاء أو الفكاهة كما تعبر عن ذلك لوسي ديديو، فبواعث السخرية وغاياتها واهدافها تختلف عن غايات الهجاء، نلاحظ مثلا عند ابن شهيد أن بسخريته يبين تفوقه ولكنه لا ينتقم أو يحقر كما يسمح بذلك الهجاء، ولا يجعل غايته هي الاضحاك فقط كما هو شأن الفكاهة، ولكن المرمى الأساسي عنده هو تغيير التفكير وتقويمه وإصلاحه.
ونجد الكاتبة ديديو لوسي في كتابها une approche sémantico-sémiotique de l’ironie تميز بين نوعين من السخرية:
السخرية الحوارية l’ironie conversationnelle ، والتي تعنى بالحوارات والنقاشات، ويكون فيها نوع من التفاعل، غير أنها عفوية تصدر تلقائيا وبدون إعداد مسبق لها.
السخرية النصية l’ironie textuelle ، والتي تعنى بالنصوص المكتوبة من قصة وشعر وكل الاجناس الأدبية، غير أنها تحتاج إلى إعداد وتدبير مسبق، يفرض على الكاتب إختيار الألفاظ، كما تكون نتيجة التفكير.
ونحن إذا نظرنا إلى رسالة ابن شهيد من هذا الجانب، سنجد فيها مزيجا من السخرية الحوارية والسخرية النصية، ذلك أن أغلب الأحداث السردية جاءت على شكل محاورات، وفيها تم ظهور النية الأسلوبية التي استعملها ابن شهيد في مجاراته لتوابع الكتاب والشعراء والنقاد، وإن في محاوراته المباشرة مع هؤلاء التوابع توجد سخرية حوارية مؤكدة، غير أنها سخرية نصية بالنسبة للقارئ، وبالتالي هذا تمازج بين الحوارية والنصية استنادا إلى ما حددته ديديو لوسي في هذا الأسلوب.
ويظهر ذلك في مقاطع متعددة مما أورده ابن شهيد، كلقائه مع تابع أبي نواس، بعدما أسمعه ابن شهيد من شعره فقال الجني ” هذا والله شيء لم نلهمه نحن ” ، فمن الواضح أنها سخرية ترمي إلى فكرة أن ابن شهيد تفوق بشعره على أبي نواس، بل ليس أبو نواس فقط، وإنما كل المشرقيين.
وفي حادث آخر، لقاؤه مع تابع أبي القاسم الافليلي، وهذا كان من أشد خصوم ابن شهيد، وكان يتتبع كل أخطائه وأعماله ويترقب متى يقبضه في خطأ أو شوائب، وتبدأ السخرية من هذه الشخصية انطلاقا من التسمية التي أطلقها على تابعه، أنف الناقة، فوصفه قائلاً : ” جني أشمط، وارم الأنف، يتضلع في مشيته، كاسرا لطرفه، زاويا لأنفه ” لأن أنف الافليلي كان ضخما، وكأنه يقول إذن فلنهتم معا بالجوانب الشكلية وفقط.
وتظهر أيضا هذه السخرية في حديثه مع حيوانات الجن، من ذلك مثلاً بغلة الجن، وهي بغلة أبي عيسى، التي جعل لها بعض الاوصاف الإنسانية، مثل الكلام والبكاء والتعبير عن المشاعر، وفي الحوار الذي دار بينهما، يتضح على أنه يرمز بها الى شخصية سياسية في عصره، فقد سألته عن حال إخوانها، فقال ” ومن اخوانك من بلغ الإمارة وانتهى إلى الوزارة ” أي أن من يحكم البلاد ليسوا رجالا وانما لهم عقول كالبغال.
ومثال آخر على ذلك، حديثه مع الإوزة، التي جعل لها هي الأخرى مجموعة من الاوصاف الإنسانية، لقد رغبت في مناظرة ابن شهيد في اللغة والنحو والغريب، وهذا يدل على أنها رمز لاحدى الشخصيات اللغوية في زمانه.
- تطبيق النموذج العاملي على رسالة التوابع والزوابع
لقد جعل غريماس من النموذج العاملي وسيلة وتقنية لفهم بنية السرد ككل، ومن أجل أن نقوم بتوضيح معالم رسالة التوابع والزوابع بنوع من التفصيل، فلا بأس أن نتجه إلى هذه الآلية بتحديد عناصرها الستة.
أولا: الموضوع
من الملاحظ، بناء على كل تلك المقومات السردية التي وقفنا عليها في رسالته، أن موضوع النثر عنده كان ابراز مكانة الأدب الأندلسي، مقارنة مع نظيره المشرقي من جهة، ومكانة ابن شهيد في زمانه من جهة أخرى، أي أنه موضوع افتخار وتقويم لبعض الأفكار السائدة عند اللغويين والنقاد آنذاك.
ثانياً: الذات
إن الذات هنا في رسالة التوابع والزوابع هي ذات السارد نفسه، بما أنه في وضعية حضور في القصة، وهو قلب السرد النابض.
والعلاقة التي تجمع بين الموضوع والذات، هي علاقة رغبة وتكامل وانسجام، او كما يسميها الصوفيون، بعلاقة الحلول التام، اي التجانس المادي واللامادي، مما يؤدي إلى الشذرة الإبداعية.
ثالثاً: المرسل
إن الباعث لهذا الكتاب كان ضرورة الوقوف عند مكانة الاندلس، ومن ناحية، كان ضرورة التنبيه إلى قوة الأدب عند ابن شهيد، فالباعث هنا أدبي، وسيكولوجي.
رابعاً: المرسل إليه
يمكن أن نحدد مجموعة من المعنيين، من بين ذلك، كتاب ونقاد وشعراء المشرق، وأيضا خصومه وحساده ومنتقديه، وإلى المتلقي كذلك.
ومنه نجد أن العلاقة التي تحكم ثنائية المرسل والمرسل إليه هي علاقة تواصلية تفاعلية.
خامسا: المساعد
يمكن أن نذكر من بين الأشياء التي ساعدت في ظهور هذه الرسالة، طلب ابن حزم من ابن شهيد أن يقوم بكتابتها، والجو العام الذي كان سائدا بين الأدباء المشرقيين والاندلسيين، والتي تمثل رسالة التوابع والزوابع انعكاسا له.
سادسا: المعارض
وإن من أشد المعارضين لغايات الذات، هم نفسهم المنتقدين منهم الافليلي وغيره، والادباء الذين كانوا يكنون له البغض، واللغويين الذين كانوا يتابعونه.
وعلى هذا ستكون العلاقة بين المساعد والمعارض علاقة تنافر وتضارب.
خاتمة
وفي الختام يمكن أن نستنتج ما يلي :
- تخصيص ابن بسام الشنتريني جزءا هاما من كتابه لذكر موروث ابن شهيد
- تمييزه بين شخصية ابن شهيد الهزلية وشخصيته الجادة
- اعتزازه بمكانته الأدبية داخل الاوساط الأندلسية وخارجها
- استخدام رسالة التوابع والزوابع لاطار غريب وغير مألوف بلغة حائكة غالبا تبين القصد على مافيها من غرابة السياق
- تحقيق العنوان الى تقنياته الكاملة ، التركيب والدلالة والإثارة
- اللغة النثرية مطبوعة ولا تكلف فيها على الرغم من تكثيف السجع
- استعمال الوصف كآلية سردية
- تحقيقه لغايات السخرية وتوظيفها بشكل متطور جدا رفع من قيمة العمل الأدبي
- اتفاق النموذج العاملي على الرسالة مما يظهر شمولية الكتابة النثرية في الأندلس وانفتاحها على ميكانيزمات النثر التي ما تزال إلى اليوم محطة تأمل وتفكير.
مصادر ومراجع
- ابن بسام الشنتريني، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة
- ابن شهيد أبو عامر، رسالة التوابع والزوابع، تحقيق الدكتور بطرس البستاني
- مصطفى عليان، تيارات النقد الادبي في الأندلس
- خضرة عاطف، السخرية في النثر الأندلسي، أطروحة دكتوراه
- عبد الفتاح كيليطو، الأدب والغرابة
- Leo Huk, la marque du titre
- Didio lucie, une approche sémantico-sémiotique de l’ironie, thèse de doctorat
- Sigmund Freud, le mot d’esprit et ces rapports avec l’inconscient 1905
- Revue ERUDIT , vol 57 . Article de Denis Bouchard ( l’ironie socratique
اترك تعليقا