في مساء ذلك اليوم،وحين لوحت شمس العشية بالرحيل معلنة نهاية يوم ممل،اختفت بين تنايا الأفق البعيد..خلف سلاسل الأطلس الصغير أو ربما بعيدا إلى مكان آخر يقتسم معنا نفس معاناة الجائحة، تشابهت علينا الأيام، هواتف مملة، وروتين موحش،قنوات تسارع الزمن لنقل أخبار المصابين بالوباء يوميا، تارة ترتفع الأرقام وتارة أخرى تنخفض، على سطح عمارة نكتري فيها شقة صغيرة فضلت الجلوس وإلقاء نظرة على حال المدينة، أزقتها، أحياءها، وشوارعها، في لحظة هدوء خيل لي أن المدينة تخاطبني قائلة نعم أنا أكادير، عاصمة سوس كما لم تروني من قبل،كنتم تجوبون شراييني قاصدين شواطئي صيفا،كنت مقصد آلاف الطلاب وزائري المدينة، أحضنهم كما تحضن الدجاجة أبناءها، فكم رحبت بكم أسواقي وساحاتي العمومية، فنادقي ومطاعمي كانت ملجأ لكم تختبئون فيهاوتتلذذون بوجباتكم في عز فصل الشتاء القارس، أنا الآن أسيرة مكتظة بالفراغ أعج بصخب الصمت، أراكم خلف ستائركم في الشرفات، تنظرون إلي،تتشوقون للقائي، أنا أيضا اشتقت لكم وفخورة بكم،هي فترة عابرة أعدكم أننا سنلتقي مجددا،أعلم أنكم هجرتموني قصرا فالظرف طائل والمريض جلل، نعم اشتقنا لك ولكل مكان قضينا فترة ولو كانت قصيرة، اشتقنا لتلك الحياة التافهة..
صارت الشوارع فارغة والهدوء مخيف ماعدا سيارة شرطة تصول وتجول في الجوار بحثا عن خارقي حالة الطوارئ اولئك المتمردون على القانون، تحوم كنسر يحلق عاليا بنظراته الحادة يبحث عن فريسة تسد رمق جوعه، سيارة اسعاف تمر من الشارع المجاور لحينا تحمل شخصا قيل أنه مشتبه في اصابته بالوباء،عامل نظافة خمسيني بزيه الأصفر يبحلق عاليا يمسح عرق جبينه لينحني تارة أخرى لإزالة كمامة رماها متعجرف غير مبال،كلاب ضالة تستغرب صمت الأزقة ظنا منها أن البشرية انقرضت،رعب يسري في نفوس الساكنة، مدينتي صارت مدينة أشباح رحل عنها ضجيج أبواق السيارات والحركة الدؤوبة لزوار المدينة، أين هم بائعوا الخضر والفواكه، ماسحوا الأحذية،وزوار الحدائق العمومية، صوت خطوات قاصدي بيت الله، وصدى أصوات أطفال الحي وهم يلاحقون شخصا أحمقا تاه في الطرقات ليجد نفسه في هذا الحي البسيط، الذي كانت تفوح منه رائحة مأكولات المقاهي الشعبية، رحل كل شيء، سيطر كوفيد الحامل لرقم تسعة عشر عدو لذوذ للبشرية حصد أرواحا ولازال يبحث عن المزيد منها في المدن والقرى والمداشر،اختبأ الجميع،وأقفلت أبواب المنازل،رجال عاهدوا الله بالبقاء في الصفوف الأمامية طاردوه ولا زالوا يفعلون،انقلبت الموازين، في شهر مارس وحين كان الجميع يستعد لقضاء عطلة ربيع بأجواءها وتياراتها الدافئة، جاء الخبر كالصاعقة، حالة الطوارئ تعم البلاد لأجل غير مسمى، هرمنا ولازال داك الأجل لم ينقض، بين متيقن من العاشر من يونيو سيكون هو الحسم وبين مشكك يتزعم التمديد، وحش قلب معالم البشرية،أجبر قوى الخالق لاحصر لها،وإن أراد أن يهلك قوما متجبرا فيكفيه كائن ضئيل ضغيف يفي بالغرض، فهمنا الدرس جيدا ووصلتنا الرسالة بنجاح،عدت أدراجي نحو الشقة وعشرات الأسئلة تتهاطل على مخيلتي،متى ننتصر،متى نحتفل بآخر مصاب، متى نستطيع المرور من مدينة لأخرى دون خوف من الحواجز الأمنية،متى نتجول في الشوارع دون خوف من دوريات الأمن، متى نتعانق و نتصافح ونلتقي دون أن ينفر بعضنا من البعض، ينتهي كل شيء ونقطع الشك باليقين ونغادر السجون نعانق حرية فقدناها منذ أشهر..
أيت الفقير عصام – مدينة هوارة
اترك تعليقا