في كتابه الشهير “أن تملك أو أن تكون ((to have or to be”، خلص إريك فروم في تحليله للمجتمعات الصناعية إلى أن الإنسان بات تحت رحمة قوانين العرض والطلب، وبالتالي أصبح يُمارس حياته ويُخضع قيًمه كإنسان لقوانين السوق كأية سلعة لها قيمة سوقية تقاس بالعملات أو ما يعادلها. رغم أن الكتاب يتناول سلوك الإنسان الأوربي في الدول الصناعية، قبل تاريخ صدوره في النصف الثاني من القرن العشرين، غير أن مخرجاته ما تزال صامدة وربما تعززت أكتر في وقتنا الحاضر، حيت أصبحت قيم السوق أهم المعايير التي تؤطر علاقاتنا الإنسانية.
مشاعرنا وعواطفنا تخضع في الكثير من الأحيان لثنائية الربح والخسارة. ربما نعترض بالقول إن هناك قيم إنسانية غير قابلة للسلعنة! وهذا الأمر صحيح نسبيا إذا تجاهلنا منطق الاقتصاد واحتكمنا للخطاب الأخلاقي القائل بأن الإنسان أغلى رأسمال وهي مقولة تحيلنا على دوره في التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتقودنا أيضا للإشارة إلى قيمة هذا الرأسمال بمنطق السوق الذي لا يؤمن إلا بالمادة كأساس للتعاملات ولنا في بعض المظاهر المنتشرة خير دليل. لنضرب مثلا بالدية التي تعتبر تاريخيا إحدى أبرز الممارسات القديمة التي قايست الإنسان بالسلع، وانتشرت في مجتمعات كثيرة وما تزال معتمدة إلى الآن كما هو الحال في مجتمعاتنا العربية الإسلامية. تهدف الدية بالأساس إلى حقن الدماء مقابل تعويض عيني أو نقدي لأهل القتيل. كانت قيمة هذا التعويض تقدر غالبا بعدد الإبل أو الأبقار أو الأغنام أو ما شابه، وبعد ذلك تطورت طريقة احتسابه وفقا لمنطق المعاملات التجارية الحديثة، وقد يختلف مقدار هذا التعويض من شخص لأخر، فدية الحر لا تماثل دية العبد المملوك، وكذلك دية الرجل لا تعادل دية المرأة، ودية علية القوم لا تقارن بدية من هم أقل شأنا، وفق تصنيفات المجتمع وتطوره، وهكذا.
في وقتنا الحاضر، هناك ممارسات أكثر سطوعا لا يكاد يجهلها أحد، لأنها تحضى بتغطية إعلامية واسعة، نخص بالذكر صفقات نجوم الرياضة حيث يباع مثلا لاعب معين لفريق ما مقابل مبلغ من المال حسب قيمته السوقية. الملاحظ هنا أن استخدام مصطلح البيع بات أمرا شائعا ومستساغا لا يكاد يعترض عليه أحد!
لو كُتب لكارل ماركس أن يبعث بيننا من جديد لوقف عاجزا عن تفسير هذه الظاهرة حتى لو صدح بنظرياته التي حاول من خلالها ربط القيمة السوقية بمقدار العمل. العمل وحده لا يمكنه تفسير صفقة بملايين الدولارات لأحد مشاهير الكرة تستخدم في صياغتها كل مصطلحات السوق من بيع وشراء وغير ذلك. هذا الأمر لا يقتصر فقط على هذه الطبقة من الناس ومن يدور في فلكها، بل أصبح مشاعا بين الجميع ولنلقي نظرة خاطفة على قنوات يوتيوب وما يبت فيها يوميا من مشاهد تنهل من قواميس الانحطاط بكل تجلياته، هدفها حصد المشاهدات لتحصيل أكبر قدر من دولارات، ولنتفحص وسائط التواصل الاجتماعي وما ينشر فيها من محتويات تعاكس في معظمها قيمنا كبشر وكأننا نتسابق لسلعنة ذواتنا قبل أن يسلعنها الأخر.
سيطرة فلسفة السوق على حياتنا حاضرة ولا يمكن إنكارها وأصبحت تتحكم في تفاصيلنا الصغيرة وفي كل خطوة نخطوها، بتنا مجرد آلات رأسمالية مبرمجة مسبقا على عملية البيع والشراء، فقدنا وعينا بذواتنا وانحدرنا إلى مجرد أشياء بالمفهوم الهيكلي (Hegel). نركض ركض الوحوش وراء حفنة من الدولارات متوهمين أنها سبيلنا الوحيد نحو سعادة موعودة. ربما نكتشف ذات يوم بعدما نستنزف إنسانيتنا أننا كنا نركض وراء دخان، حينها نعود ونحاول عبثا ترميم قيًمنا المنهارة وأخلاقنا المنصهرة في نار مفاهيم مادية مجردة من أية روح إنسانية.
أحمد العكيدي ـ مدينة الرباط
اترك تعليقا