وأنا على ساحل البحر أتخبط بخطى مثقلة على الرمال المتشبعة بالزبد، غير منسجم مع أصوات الأمواج، غارق في غواصة أفكاري، فجأة وعلى غير العادة لمحت كائنا في أحضان الأمواج الهائلة، حدقت جيدا، اذ اتضح أنه عجوز تقاذفه الأمواج وتلعب به رغم أنفه، وهو يصارعها بتشبث وإصرار، وكأن له سرا يريد البوح به، حتى ولو كلّفه حياته، فهو مستعد لدفع أي ثمن كي ينقذ ذلك السر، أخيرا بعد صراع صامد ارتمى مندفعا على الشاطئ أمام ذهول عيناي، اقتربت منه، وبدا جسمه أزرقا للآخر، لم يكن يرتدي سوى قطعة قماش ممزقة ومهترئة مثله تماما، كان يتنفس بصعوبة وتقاسيم وجهه مكشرة، أسنانه تصطك كأن برودة الموت بدأت تسري في جسده، فرمقني بنظرة فراغ وكأنه ينظر من خلالي إلى اللاشيء، بدأ يتمتم كلمتين بهستيرية: أخيرا وجدتها. المعذرة سأتصل بسيارة الإسعاف حالا، تشبث قليلا. تكلمت بسرعة وتوتر، رغم أنني لم أستوعب ما حصل له، كيف لرجل طاعن في السن أن يسبح ويصارع الأمواج كشاب بجسم رياضي وأن ينجو من تلك الأمواج الهائلة. بعد أن اتصلت بالإسعاف، وفي دقائق الإنتظار، بينما أنا أتأمل في ذلك العجوز التعيس، إذ لاحظت أن إحدى يديه مقبوضة بشدة، وكأنه ممسك بشيء ثمين، حتى ولو كان يحتضر فإنه سيظل ممسكا به حتى آخر ذرات أنفاسه، لأنه من شدة القبضة انغرست أظافره على راحة يده مما تسبب بنزيف الدم على معصمه، بعد أن جاءت سيارة الاسعاف، أخذوني معه كشاهد عيان لما حدث له، حتى وصلنا إلى المكان المعلوم، عندها وضعوه بسهولة في السرير ذو العجلات لمدى نحافة ورشاقة جسمه رغم وصوله لمرحلته الأخيرة من حياته، إلا أن قوته تُظهر عكس ذلك.
جذبوه إلى جناح المستعجلات، ومدُّوه بالإسعافات الأولية، فجلست على كرسي الإنتظار في صمت قاتل، أتأمل الجدران البيضاء كأنها أموات تلتحف الكفن، وروائح الأدوية تمتزج مع عبق أنفاس المرضى والمحتضرين تُشعرني بالدوار، حتى أنني لا أعلم ما صلتي بهذا الشخص، وما الذي أحضرني إلى هنا، فحياة المستشفيات لا تروقني، ولا أجد لها مكانا في نفسي. فُتِح الباب، وخرج طبيب من الغرفة تعلو جبينه إشارة استفهام وهو يتقدم نحوي، فبادرته بالقول: كيف حال ذلك الرجل المسكين؟ هل أسعفتموه ؟ فأجابني: إن حالته الصحية متدهورة جدا نظرا لتقدمه في السن، لكن بنيته قوية جدا، لا أدري، أكان ملاَّحا، فله ذراعين قويتين أشبه بالمجدافين. فقلت له: هذا ما رأيته كذلك، عندما لمحته يصارع تلك الأمواج بمثل تلك القوة التي لا يمتلكها حتى شاب عادي مثلي. نظر إلي نظرات يساورها الغموض، وكأنه كيميائي يُدقق في جُسيم غريب لم يكتشف تركيبته بعد، ثم أخبرني أن ذلك العجوز يودّ رؤيتي، ولا يريد أن يؤجل ذلك، لعله يلحق بمسعاه. عقدت حواجبي من الدهشة وأنا لا أدري ما الداعي وما المغزى من وراء طلبه ذلك، اختلطت علي الأفكار ثم أجبته: حسنا سأدخل لأرى المريض وأسمع ما يود قوله. دخلت إلى تلك الزنزانة، أقصد الغرفة.
أغلقت الباب بهدوء، ثم دنوت بالقرب منه وجلست على كنبة مهترئة، محاولا تشخيص حالته كطبيب نفسي، كانت أنابيب الأكسجين تغمر فجوتي أنفه، وضمادات تكسو جبينه المجعد، وأنا أدقق في وجهه المكفهر التي تعلوه نظرة الحزم والقسوة، لكن صبغة الموت اختفت عن جسمه قليلا، فارتسم لون الحياة في محيَّاه، فتح عينيه المعمشتين بتثاقل، واستدار نحوي بصعوبة، بدأ ينظر إلي نظرة الأمل، كأنه وجد طريق الخلاص بيدي، وحلولا لمأساة انتزعت أجنحة حرِّيته وسجنته في زنزانة البؤس والضياع، وأنا هائم في ضجيج أفكاري إذ بحركة سريعة من يده تمسك يدي بقوة، وبدأ يفتح فكه السفلي بتعب كأن الكلام لم يعد يستهويه، لكنه يجد فيه فرصته الأخيرة، لأن لا أحد سيعلم ما الذي يحتاجه بالضبط إن لم يستطع الكلام، وما إن بسط يده الأخرى حتى فتحت فاهي من الصعقة، وأنا أتلعثم في كلامي: أهذه لآلئ حقيقية؟ فأجاب: نعم اللؤلؤات الخمس لحورية البحر الحسناء .
ماذا؟ أيعقل ذلك؟ هل هي حُمَّى البحر أم هو هذيان؟ هل أنت الآن تتحدث معي بكل قواك العقلية؟ أم أنت نصف يقظان.
أجابني العجوز بنفاد صبر: أرجو منك أن تنفد ما أقوله حرفيا، لأنني أريد أن أسترجع تلك العشرين سنة التي سُرقت من حياتي، فاستمع أرجوك لقصتي أولا، فقد وجدت فيك راحة وبساطة نفسية لم أعهدها في أي شخص من قبل، عندما لمحتك قرب شاطئ فانيسا.
ماذا قلت فانيسا ؟
نعم هكذا كان اسمها، تلك الجزيرة التي اختفت الآن بعد أن غمرها البحر، كانت جزيرة فانيسا، أو أرض تحكمها فتاة ليس لحسنها نظير، مُحِبَّة للخير وتسعى دائما للعدل وكشف جميع الجرائم والقتلة بمعونة من كتاب كان لأسلافها القدامى، فتناقلوه جيلا بعد جيل، أبا عن جد، حتى وصل بين يديها.. كنت زمانها شابا مقداما في عمر الزهور، يتيم الأبوين، أعيش قرب ساحل البحر كادحا بعرق جبيني، كان لدي زورق، هو هبة من حاكم البلاد، كصفقة تجارية مربحة لي وله، فكنت أسافر بزورقي في قلب المحيط، وهناك ألقي بشباكي وأنتظر الخيرات لتملأها، لقد كانت البلاد حافلة بالثروات الحرفية والزراعية، ففي مقدمتها الثروات السمكية، لأنها بلدة ساحلية، أكثر من نصفها محيط، لذلك فمهنة الصياد هناك لها مقام نفيس في ذلك الوقت، كنت أملأ القارب بكل أصناف الأسماك، وعند المغيب أرسي بزورقي عند ضفاف قصر الحاكم، فيأتي خُدّام القصر لإحصاء الثروات، كي يأخذوا نصفها، أو أكثر من نصفها، والباقي آخذ منه ما قد يسد رمق جوعي ثم أبيع ما تبقى منه، وأنا أعيش هكذا، حتى أتى ذلك اليوم، يوم تذوقت فيه المرارة القصوى التي أحرقت روحي، عندما ذهبت بزورقي عند باب القصر، وقد تأخروا في فتح الباب على غير العادة، بعد حين فُتح الباب أقبل خادم نحوي وعلامات التوتر بادية في محياه، فخاطبني: اليوم يوم حظك، إن الحاكم عرض عليك الآن الحضور إلى وليمة جزءا لخدمتك لنا، ومكافأة على مجهودك وتعبك، فدخلت وأنا أحلق من السعادة، حتى أنني وجدت الوليمة جاهزة على طبق من ذهب وبأصناف شهية لم أر مثلها في حياتي، فأكلت بشراهة حتى امتلأت وكدت أنفجر، بعدها ذهبت لأشكر الحاكم على هذا الكرم، لكن أحد الخدم اعترض طريقي مشيرا إلى أن الحاكم في فترة سبات، فعدت أدراجي، كان حينها الظلام دامسا، وبصعوبة شققت الطريق لولا نور القمر لما استطعت العودة إلى البيت، ركنت القارب جانبا ودخلت بيتي. خلال أول بصيص من نور الصباح، سمعت كوكبة من الخيول تصطف قرب منزلي، يتبعها ضجيج أقدام كحشد من الجنود، ثم فجأة بدأ الباب يتحطم مع صراخ مدوّ اهتز له قلبي، وأنا أرتعد من هول ما أسمع: هاهو قاتل الحاكم، هاهو السفاح الوغد، لقد قام بتصويب سهم على قلبه وأسقطه قتيلا.
بدأت الدنيا تحيط بي، فسقطت مغمى علي، لم أع شيئا مما حدث، حتى استيقظت فوجدت نفسي في زنزانة كريهة، و جسدي متورم بآلام مبرحة تنهشني وعلامات السياط الحمراء ترتسم على أنحاء جسمي، تلك الزنزانة كانت أشبه بصندوق، ضيقة وخانقة جدا، لا يوجد بها متنفس سوى فتحة صغيرة في أعلى الجدار، يتسرب عبرها بصيص من النور، وأنا غير قادر على الحركة بسبب الصدمة، وأسئلة لا حصر لها تتردد في طبلتي أذني كهاجس يوحي بأن شيئا حصل ليس على ما يرام عندما استدعوني لتلك الوليمة، كانوا متآمرين على الصاق التهمة علي، لأن المجرم لا محالة سيكون شخص من حاشية الحاكم وخدمه، فجأة أتاني خادم من خدم الحاكم ووقف وراء القضبان مبرزا جزءا من أنيابه السفلى كالذئب ثم بادر بمخاطبتي: أنت الآن لا تعلم فظاعة ما اقترفت، لا يوجد لك فرار من هذا الجرم الذي لا يغتفر، والكل يشهد على أنه رآك أمس عندما دخلت إلى قصر الحاكم، ونلت شرف الحضور والجلوس في غرفته الخاصة لمشاركته الوليمة، بعد أن انتهيت قمت بتنفيذ جريمتك، وهي أنك غرزت سهما في قلب حاكمنا مما دفعه للموت مباشرة، والدليل الأكبر أننا وجدنا السهم المضرج بدمائه مخبئا في زورقك المركون بجانب بيتك، عسى أن يكون الحكم عادلا وأن تتعفن وراء تلك القضبان طول عمرك.
عندها فهمت حالا ما المغزى من ذلك الكرم والسخاء، إلى حين علمت أهوال ما وقعت فيه، كانت خطة محكمة لتغطية شريط الجريمة، ضحيتها أنا الشاب المسكين الذي لم يكن له عون ولا رحيم، منقطع الفروع، وحيد الروح، جلست في تلك العتمة عشرين سنة، ولم أر فيها نور الحق والعدل، ذلك المكان الذي كان لا بد للمجرم الحقيقي أن يتعفن فيه جزاء على ما اقترفته يداه العاريتين، حللت أنا مكانه بهذه البساطة، ويل لهم لو يفرج عني من هذا السجن، سأنتقم أشد انتقام من هؤلاء الحثلة القذرين، أحياة الإنسان لعبة بين يديهم، هل هي بهذه البساطة، ما هذا الافتراء الظالم، القاتل خارج هذه القضبان يحيا كما يحلو له، وأنا في مكانه أحترق على مجامر حظي اللعين، أندبه وأنا في ريعان شبابي، حياتي ما زالت طويلة، لكن هذه النكبة التي وسختها أيادي هؤلاء الظالمين، بدأت تقتلني ببطء وتأكل من حياتي التي كنت أريد أن أعيشها كطائر حر طليق، نكبة قصفت جناحيه وخنقته وراء القضبان، بلا أي ذنب ارتكبه، يا للخزي والعار على هذا العدل السقيم …
وهناك عشت عشرون سنة من الخنوع والقهر، حتى اليوم الذي أتى الحارس كي يفرج عني أسري اللامتناهي الظلمات، مطلا وراء القضبان كشخص آت من عالم آخر، بشعر أشيب وخد هضيم وجسد متهالك بأفكار مضاربة، كأن الفناء ألحقني وأنا طفل حديث الولادة، حتى خرجت لأول مرة إلى النور الذي أعاد لروحي المظلمة نسمة من الروح.
وأنا أجر خطواتي كأنني أحمل الجبال على ظهري المحدب، والذي احدودب من وراء قضبان المأساة، وأنا أمشي بخطى مثقلة ومتعثرة، حتى فتحت عيناي على جزيرة مهجورة، وجلست قرب الصخور أستنشق عبق البحر، تائه بين أمواجه التي تصفع أعلى الصخور، فجأة لمحت كائنا أسودا يتمشى، وقد ظهر لي كجن والعياذ بالله، فهلعت وأنا أنظر إلى ذلك الجسم الغريب بنظرات مرتاعة، لكن ذلك الشيء اتجه نحوي، فتوقف بعد أن أصبحت المسافة بيننا مترا واحدا، اتضح أنها أنثى حالكة بالكامل، عرفتها من شعرها الطويل المنساب على ظهرها، فسُحنتها تبدو مفحمة وموحشة، وإذا بها تخاطبني : لن تخاف إن عرفت من أنا وما قصتي، أرجو أن تبقى في مكانك وتستمع إلي إنني حقا أحتاج إلى المساعدة منذ أعوام، لكن لا أحد تجرأ على الاقتراب من هذه الجزيرة، وكل من يقترب منها يفر مذعورا عند رؤيتي، فأنا الحورية الحسناء التي تساعد الناس، لكن ما حدث لي غيَّر جسمي إلى مسخ شيطان ولا أستطيع أن أقرب الماء، لأنني سأنطفئ وأموت، فجسمي أصبح محترقا وأسود كالفحم، فأجبتها بخوف: حتى أنت كتب على جبينك الشؤم والحظ اللعين، سأستمع لقصتك وسأساعدك مهما كلفني الأمر مقابل مساعدتي كذلك، فأنا مظلوم، وأردت حقا أن أنتقم من كل من له يد في حشري وراء القضبان لعشرين سنة، فحكيت لها قصتي كاملة فقالت لي: اتبعني حتى أريك شيئا لأفسر لك قصتي، وإن ساعدتني فحتما ستغير تاريخ وقت الجريمة، لتعطيك فرصة أخرى كأنك لم تعش ثانية وراء تلك القضبان، وبل من عاشها هو مرتكبها. فوجّهتني نحو مغارة صخرية، ينبعث من وسط ظلماتها نور طفيف، ونحن نعبر الممر داخل المغارة، إذ بها تخاطبني: أترى ذلك النور؟ إنه كتاب العدل، كتاب يكشف تاريخ أي شخص وجهت له جريمة لم يرتكبها. وبلهفة عطشان ارتميت على الكتاب لأفتحه، لكنه كان محكم الإغلاق، وأتممت الكلام: أترى غلاف الكتاب؟ فهو يحمل خمس ثغرات اثنتان في الأعلى واثنتان في الأسفل وواحدة في الوسط، إنهم ثغرات كانت تملأها اللآلئ الخمسة، كانوا بمثابة مفتاح للكتاب، كنت أضعهم في عقد على عنقي، فذلك العقد كان هو روح حسني وجمالي، كنت حورية حينها أتزين به، وبزعنفتي أعبر بقاع البحار، وأحكم هذه الجزيرة المسماة على اسمي “فانيسا”، ويأتون إلي الآلاف من مختلف البلدان لأساعدهم، إلى حين ذلك اليوم المشؤوم، اليوم الذي كنت في حضن البحر، أتماوج مع زرقته، وأنساب بين رونقه، أتى تيار شديد، لم يحدث له مثيل من قبل، فجرفني بقوة، ومن شدة التيار ارتطمت بأحد الصخور الدفينة في أعماق البحر، فتمزق العقد وسقطت اللآلئ هناك، ولن تعرف مدى هلعي في تلك اللحظة حيث كانت نهايتي حتمية، لولا زورق صغير كان قادما باتجاهي كنت في تلك اللحظة أحس بجسمي يحترق ويتحول إلى اللون الأسود، فركبت ذلك الزورق، عبرت به المحيط حتى نقلني إلى ضفة الأمان، بعد أن اسود نصفه من شدة حرارتي، والآن أنت تعرف القصة كاملة، فما عليك سوى العودة بذلك الزورق إلى عمق المحيط، كي تبحث عن لؤلؤاتي الخمس ولو كلفك الأمر طوال حياتك، ستجدني هنا أنتظرك لنفتح الكتاب معا أو أرسل إلي شخصا موثوقا، وسيعود بك التاريخ إلى نقطة الجريمة، حيث ستكشف عن القاتل وسيسجن مكانك، كما أن ذاكرتك ستحيا من جديد، ويتغير كل شيء كأنك عشت الحياة بسمائها ونورها، سيرسخ في ذاكرتك شريط آخر من تاريخك، أنك كنت طيرا طليقا عاش حياته كالبشر الأحرار.
بعزم وثبات وافقتُ على البحث عن هذه اللآلئ الضائعة، حتى ولو كان مستحيلا ايجادها، ولو كلفني ذلك الأمر بقية حياتي، والمفاجأة أن ذلك الزورق الذي أنقذ الحورية ما كان سوى زورقي الصغير الذي تقاذفه البحر إلى حيث شاءت الأقدار أن يكون هو حبل نجاة الحورية، فصنعت مجدافين، وبدأت رحلة التنقيب إلى الأبد، عشت في ذلك القارب وعلى الأسماك النيئة، وكنت أقتات أحيانا من المحار والقشريات، ومرارا أستريح على إحدى الجُزر الصغيرة، حتى عثرت على اللآلئ الأربعة، بقيت الخامسة، فبحثت عنها السنين تلو السنين، وأصبحت بنيتي هائلة من قوة التجديف، حاربت كل يوم كي أعيش لأرى نور الصباح مجددا، أصبحت عجوزا طاعنا في السن، وأتى اليوم الذي غير حياتي، إذ عثرت على اللؤلؤة الخامسة، وكم بكيت من الفرح، لكن في تلك اللحظة أتت من حيث لا أعلم أمواج عملاقة قد تفترسك في غمضة عين .
تشبثت باللؤلؤات الخمس و جدفت بأقصى قوتي، محاولا موازنة القارب على سطح المحيط، لكن تلك الأمواج حطمت قاربي بشدة، فلم يبقى لي أمل بالنجاة، سوى المجازفة بالسباحة بأقصى ما لدي من جهد، وبقوة الساعدين تحققت المعجزة، ونجوت بعد أن صارعت الأمواج، قذفتني إلى الساحل، وها أنا ذا أمامك أيها الشاب المنقذ.
فتحت ثغري من الدهشة، لكنه رغما عني أردت أن أصدق قصته التي تشبه الخرافات والأساطير، وعلمت لم طلب محادثتي، فما عساي سوى أن أجاري مطلبه كي تتضح الحقيقة بمرأى من عيناي .
خاطبني بنبرة تهكم: أتسمعني يا بني أنا أعلم أنك تتهمني بالجنون لكن دعني أؤمنك بهذه اللآلئ الخمسة، لكي تعود إلى الساحل، وسأصف لك مكان الحورية بالتفصيل، وعليك أن تأخذ الحذر حتى توصل اللآلئ الثمينة في أمان تام .
بعد أن حدد لي المكان، شددت الرحال بسحنة ناج من انفجار نووي، حتى وصلت وبدأت أصيح بصوت عال : فانيسآآآ، فآآانيسآآ، أنا مرسل من الشخص الذي كلفتيه بمهمة البحث عن اللآلئ الخمس، فانيسا أين انت؟ افف لابد ان هذا جنون، كيف حدث أن صدقت ذلك العجوز المخبول، لكن بنظرة خاطفة حول المكان، أطلت تلك السوداء من بين الصخور وهمت قادمة نحوي وهي تقول: أخيرا أتى اليوم المنشود، اليوم الذي سأعود إليه لسابق عهدي. هاتها واتبعني مدت يديها وما إن أمسكتها حتى تحولت تدريجيا إلى حسناء بيضاء، فتحت فاهي مندهشا لمدى جمالها وهي متجهة نحو المغارة، وأنا أتتبعها بنظرات الولهان، حتى وصلنا إلى الكتاب الذي يومض بريقا في الظلام، وضعت اللؤلؤات الخمس بعناية في ثغراتها، و بدأت تتوهج كنجوم السماء، فُتِح الكتاب وأُنير المكان باللون الأصفر، فصفحاته الزجاجية التي تشبه طبقات سميكة من الذهب أذابت عيناي والتي تحمل شرائط صور متحركة، أغلبها تشهد على القتلة في مسارح الجرائم، وهي تقلب صفحاته حتى وصلنا للأمل المنشود، تلك الصفحة التي ستغير حياة العجوز للأبد، ابتسمت قائلة : آن للتاريخ الآن أن يتحول إلى مسرح مرئي سيكشف لذلك العجوز كل شيء، سيبعثه إلى ذلك الوقت حين كان شابا، فلتذهب أيها التاريخ إلى مكانه أينما كان، ولتكشف له الأحداث بروية ودقة.
في المستشفى فتح عينيه الواهيتين، حينما سمع وشوشات لطالما تردد صداها على أذنيه، فتولاه فزع هائل لما يحدث حوله، فالتاريخ حتما تحول إلى مسرح مرئي أمام مرآه وهو يتابع الأحداث بتمعن، عابرا بوابة الحاكم بشاشة ثلاثية الأبعاد، وبدأ الشريط يُعيد تمثيل الجريمة، هناك كان خادم من خدم القصر، يُعلِّم ابنه ذو الثمانية عشر سنة دقة التصويب بالسهام، وبالصدفة كان الحاكم مارا من بعيد بجانب الحديقة، وهو ينادي ذلك الخادم، فترك ابنه يتدرب وحده بالسهام، وهو قادم عند الحاكم، اذ مر سهم كان قد أفلت عن طريق الخطأ من قوس ابنه واتجه مباشرة صوب قلب الحاكم، فتهاوى مقتولا أمام عينيه، عندها انتشل العجوز من مكانه لذلك التاريخ، هو الآن شاب أمام قصر الحاكم، و في لحظة الجريمة سمع صراخ الخادم على ابنه، وبسرعة قفز من سور الحديقة، وقف صامدا أمامهم كشاهد عيان لقاتل الحاكم، فما كان عليه إلا أن يسهر على تسليمه لضباط البحرية ، حيث ستتم محاكمته قضائيا.. فتح العجوز عينيه وهو بالمستشفى طريح الفراش متعرقا، مغمورا بالغبطة والسرور لأن تاريخا آخر قد عاشه في حياته ومرَّ كشريط جميل في مخيِّلته، أمام مرقده تجلس زوجته العجوز أبناءه وأحفاده، وهم يبتسمون نحوه بدفء، وعيون زوجته الناعمة تنعش قلبه وروحه، فأغلق عينيه ونامت روحه بسلام.
أحلام صالحي – مدينة بني ملال
اترك تعليقا